كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

ويمكن صياغة قاعدة جديدة جامعة هي: الشريعة قائمة على التسهيل لا التساهل. فالتسهيل جمع بين قاعدة أصل التشريع في الآية، وبين قاعدة الطوارئ الشاقة.
والمقصود منه -أي التسهيل- حفظ التشريع، ودوام التعبد في أي ظرف بحسبه، فيؤدي إلى اللزوم والالتزام بالتشريع.
وأما التساهل فهو: مفض إلى الانفلات عن التكليف والتهرب منه، والالتفاف عليه بحيل ومتشابهات، فيؤدي ذلك إلى خلاف مقصود الشريعة.
والأصل دعوة كل كافر لا قتل كل كافر.
ويشرع البر والقسط لغير مقاتل ولا معاون؛ للنص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8).
فيجوز تبادل الزيارات (¬1)؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي فأكل، وكان يمشي إلى يهود. وردُّ السلام جائز إذا سلموا بإجماع العلماء (¬2)؛ ولعموم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86)، وهذا عام.
وأما ابتداؤهم بالسلام خاصة فمذهب جماعة من السلف جوازه، وعليه يحمل حديث «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» (¬3) على الحالة التي كانت جارية عندهم في تعاملهم مع
¬_________
(¬1) - قولنا «فيجوز تبادل الزيارات» قلت: الأصل فيها الإباحة، ومن ادعى المنع فعليه الدليل، وما أوردناه من الحديث ظاهر، فقد كان يجيب دعوة اليهود كما ثبت في صحيح البخاري برقم 1356 عن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول «الحمد لله الذي أنقذه من النار».
(¬2) - قولنا «ورد السلام جائز بإجماع العلماء» نقل ذلك النووي في شرح مسلم (7/ 296)، وإنما الخلاف في: هل يقال «وعليكم» أم يزاد «وعليكم السلام»؟ والصحيح أنهم إذا سلموا تسليما صحيحا فيرد عليهم بذلك؛ لعموم الآية (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86). وأما إذا حرفوا الكلم كما كان اليهود يسلمون على النبي والصحابة بقولهم «السام عليكم» فأمرهم النبي أن يردوا عليهم بقولهم «وعليكم» كما في مسلم. فيحمل هذا النوع الخاص من الرد على هذه الحالة فقط، لا على كل حالة، فإنه لا يليق بمحاسن الإسلام، ولذلك ذهب علقمة والنخعي والأوزاعي وجماعات إلى ابتدائهم بالسلام فضلا عن مجرد الرد عليهم، وهذا هو اللائق.
(¬3) - أخرجه مسلم برقم 5789 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام». قال =

الصفحة 134