كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، فنهى سبحانه عن ترك القضايا العامة للأمة خوفا وأمنا عالقة خاضعة للإشاعة التقولية بين العامة، وأوجب ردها إلى أهلها للبت فيها، وقَطَع بوصولهم إلى عِلْمها بدليل (لَعَلِمَهُ) وتَرَك آليات الرد للنظر المصلحي للأمة زمانا ومكانا.
والحكم به من حاكم نظره في عين القضية ولا يتجاوز حكمه ذلك.
والمنفذ له تنفيذي يعمل بالنص، ومقتضياته مما هي كالنص أو قريب منه (¬1).
ويشكل الكل مؤسسة تسمى الدولة.
ونعني بـ «الكل»: الشعب ومؤسسته المستنبطة، والسلطة الحاكمة، والمنفذة.
ويجب أن تسير الدولة وفق أحكام الشرع وما انبثق منه من العقد الشعبي العام معها، سواء كان منصوصا أو غير منصوص؛ لأنه مُلْزِم على كل حال، والعقد المنصوص بين الشعب والحاكم مُلزِمٌ، سواء كان على صيغة دستورية أو قانونية أو كليهما، أو كوثيقة، أو عهد، أو اتفاقية.
فإن لم يكن العقد منصوصا فهو ملزم -كذلك- من جهة العمل على مقصودات الشرع؛ لأن مقصوده إقامة المصالح ودرء المفاسد وعلى هذا المقصد الشرعي العظيم تبنى الإرادة الشعبية وتقوم خدمتها؛ لأن هذا هو الأصل الذي تقوم عليه الولاية، ولا بد الآن من وجود العقد الشعبي المنصوص عليه بين الحاكم والمحكوم دفعا للمفاسد الكبرى، ويجب الالتزام به؛ لعموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وهذا عقد، بل من أكبرها وأهمها.
ويجب إدارة البلاد دولة وشعبا بسياسة قائمة على حفظ المصالح العامة ومحاربة المفاسد بتقليلها وتعطيلها.
وتدار الدولة بسياسة قائمة على مقتضى العقد الشرعي والرضى الشعبي في داخل وطنها وخارجه بقانونية منبثقة عن الشرع بفهم منصوصاته ومقاصدها، وفهم واقع الحال والمآل المناسبين لتنزيلها فيهما، وفهم الأوليات عند التزاحم والتعارض، وفهم السير على الأصل وعلى الاستثناءات.
¬_________
(¬1) - قلنا «ومقتضياته مما هي كالنص أو قريب منه» دفعا لمفسدة العمل بالتأويل والاحتمال الذي قد يوظف توظيفا منحرفا غير مراد ولا متوافق مع المصالح العامة المعتبرة.

الصفحة 147