كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

فالدولة ليست مطلوبا شرعيا فحسب، بل وعد الله، وهو يدل على كونه مقصداً ربانياً ومطلباً شرعياً يتحتم على الأمة المؤمنة الوصول إليه.
فالشريعة تنهى عن تبعية الجماعة العامة والأمة لنظام يقودها من غيرها، بل يجب أن يكونوا هم من يقود؛ لأن الوعد والأمر بالاستخلاف لهم هو سنة ربانية مطردة (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (النور: 55).
ومقصود الشرع في ذلك حقيقة التمكين لا مجرد السلطة الصورية بل التمكينة التامة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55).
فالتمكين أعلى رتب الاستخلاف، وفوق مجرد الإمامة والقيادة؛ ولذلك فَصَلَها الله في آية وأفرد كلاً بذكر مستقل (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 5 - 6).
والتمكين للقيادة الراشدة، رحمة بالحاكم والمحكوم: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء) (يوسف: 56)، فجعل التمكين ليوسف رحمة له ولمن ولي عليهم.
ودل هذا أن التمكين للقائد الراشد ولو فردا ولو في ظل نظام آخر أمر مقصود شرعا.
فالولاية والقيادة والدولة والتمكين للجماعة في الأصل، بل حتى لفرد يخفف المفاسد، هو منة ومقصد ورحمة، وهذا يدل على أن:
الولاية ليست من المذام الشرعية، ولذلك طلبها الرسل فقال سليمان (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص: 35).
وقال إبراهيم (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء: 83)، وقال سبحانه ممتنا على يحيى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12).
وامتن على قوم موسى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ) (المائدة: 20).

الصفحة 155