كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

لعموم الوعيد (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146).
بخلاف الوساطة المذمومة، فهي تعاون على الإثم والعدوان من جهة تقديم من لا يستحق على أهل الاستحقاق، وهذا منكر.
ولا مانع مع توفر الكفاءة من تقديم من ثبت يقينا فاقته وحاجته على غيره ممن هو أحسن حالا منه؛ لأن الجمع بين مصلحتين في الشرع أولى من مصلحة واحدة، وقد جمع له هنا المصلحتان: العامة كونه كفؤا مؤهلا، والخاصة كونه ذا حاجة.
وثبوت ذلك بحكم حاكم أو شهادة عدول كما جاء في النص «ثلاثة من ذي الحجا» (¬1).
أو بالاستفاضة والشهرة الصادقة من جيرانه وصحابته.
لأن ظن الغنى المخالف للواقع إنما يكون من جاهل لا علم له بالحال؛ لأجل التعفف الحاصل من الشخص كما في الآية (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة: 273) بخلاف من كان مصاحبا له أو جاراً، فلا يجهلون حاله ولا يغترون بتعففه غالباً.
وإنما جعل شرط القوة والأمانة من الخير لا من الواجب في الظاهر (¬2) من قوله تعالى (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص: 26)؛ لأن للفرد في حقه العفو عن بعض الشروط للأجير، إحسانا إليه، وتيسيرا؛ لكن لا يجوز هذا فيما هو من وظائف الدولة، أو الأهلية العامة
¬_________
(¬1) - قولنا «كما جاء في النص» هذا الحديث في صحيح مسلم برقم 2451 عن قبيصة بن مخارق الهلالى قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها». قال ثم قال «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سدادا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا».
(الحجا: العقل، الفاقة: الحاجة، القوام: ما تقوم به الحاجة).
(¬2) - قلنا «في الظاهر»؛ لأن لفظ «خير» صيغة تفضيل بمعنى أخير، فيفهم منها أن من ليس فيه صفة القوة والأمانة هو خير لا أخير، وهذا غير مراد.

الصفحة 43