كتاب الفلاكة والمفلوكون

وكذلك إن فقده.
وقد روي عن عائشة أنها فرقت في يوم مائة ألف درهم، فقالت لها جاريتها: هلا شريت لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت. وذلك لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله والمشغول ببعض نفسه
مشغول عن الله أيضا، بل كل ما سوى الله.
مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وبغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه به منصرف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه، فكما أن النظر إلى غير المعشوق بحب شرك كذلك النظر إلى غيره ببغض شرك فيه ونقص.
وأما هروب الأنبياء والأولياء والأكابر من الدنيا فذلك لأن الدنيا خداعة مدعاة إلى الشهوات والراحة في بذلها أنس بغير الله، والأنس بغير الله بعد عن الله، فالأنبياء والأولياء يتركون الدنيا للتشريع والتعليم والخوف على أتباعهم من أن يتشبهوا بهم مع عدم قوتهم فيهلكوا. ومن دونهم ممن لا قوة له يترك ذلك احتياطاً وحزماً، فإن استواء الذهب والحجر في القلب عسير ومزلة قدم، وهو حال الأنبياء وأفراد الأولياء.
ويوضح لك أن المال في اليدين بدون القلب لا ينافي الزهد، إن خزائن الأرض حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر وعمر فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها. وكان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات كان يتصدق بها بين أريس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار، وكان للزبير عند وفاته خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
قال عروة: كان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالبصرة دور، وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة. وترك عبد الرحمن ابن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة. قال ابن سيرين: كان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفاً.
قال أبو الأسود عن عروة: أوصى عبد الرحمن

الصفحة 12