كتاب الفلاكة والمفلوكون

الحمد أقوى من لذة الحياة، وإذا ثبت ذلك في اللذة ثبت مثله في الألم العقلي والجسماني، لان نسبة هذا الألم إلى الألم الجسماني كنسبة اللذة العقلية إلى اللذة الجسمانية، وكلام الفلاسفة وابن سينا طافح بأن الألم العقلي أقوى من الألم الجسماني.
إذا تقرر ذلك كله فالمفلوكين من أهل العقل والفضل والنباهة آلام عقلية تلزمهم:
(أولاها) - تشوفهم وتشوقهم إلى المكارم والمعالي ومد أعناقهم نحوها ولا شك أن الشوق إلى المشوق مع عدمه وعدم التمكن من تحصيله وعدم الاشتغال بما يلهي عنه عذاب مذاب، ولذلك لا يبتهجون بالأعياد والمواسم بل تكون زيادة في كمدهم، وستأتي أشعارهم في تشوقهم إلى المعالي وتألمهم على فقدها في الفصل الثاني
عشر إنشاء الله تعالى.
(وثانيها) تألمهم بذكر نقائصهم الواقعة منهم أحياناً بحكم البشرية، لما ركب الله تعالى في البشر من القوة الشهوانية والغضبية والمتوهمة اللواتي هي أصول الفساد، وهي المشار إليها في قوله تعالى: {إلى ظل ذي ثلاث شعب} في أحد الأقوال، ولما أن للقلب ميلا إلى الأخلاق السبعية والبهيمية والشيطانية على ما هو مقرر في كتب الصوفية، ولما ركب أيضاً في الجشم من التسفل، ولما جعل من أن الفساد أدخل تحت القدرة من الصلاح كالبناء والهدم، ولا شك أن إطلاق النفس وطبيعتها ترويج لها وتنفيس من ألم ضبطها، وحينئذ فيكون الترويح والتنفيس بالنسبة إلى المفاليك ناقصاً مخدجاً لما فيه من ترقب التنقيص، ويكون أيضاً عسير الانتظام نادر الوقوع لذلك، ولقد أحسن من قال:
إما ذنابي ولا تعبأ بمنقصة ... أو ذروة المجد واحذر أن تقع وسطا
وأشد من ذلك ألما وأعظم مصيبة إضافة النقائص الموهومة أو المكذوبة إليهم وهم منها براء، ولقد عرى أهل الفضل من ذلك شدائد. كان الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمرو بن محمد الخوارزمي ساقط إحدى الرجلين، وكان يمشي في حلوب من خشب لسقوطها بالثلج في بعض أسفاره في بلاد خوارزم، فكتب معه محضراً فيه شهادة

الصفحة 19