كتاب الفلاكة والمفلوكون

والفارابي بالغا في الرد على الأحكاميين والنجوميين وأطال في ذلك ابن سينا في آخر الشفاء، وحتى أن أبا معشر وهو من أئمتهم اعترف بأنه تخمين، فإنه قال معتذراً: كل الأغراض الغائبة توهم لا يكون شيء منها يقيناً وإنما يكون توهم أقوى من توهم.
وانظر ما كان أقوى تعلق بني برمك بالنجوم حتى في ساعات أكلهم وركوبهم
وعامة أفعالهم وكيف كانت نكبتهم الشنيعة، وانظر حال علي ابن مقلة الوزير وتعظيمه لعلم أحكام النجوم ودخوله داره على طالع سعيد فنكب فيها أشد نكبة وقطعت يده ولسانه.
والدليل على بطلان ذلك أنا نشاهد عالماً كثيراً يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقاً يغرقون في ساعة واحدة مع القطع باختلاف طوالعهم واقتضائها عندهم أحوالا مختلفة، ولو كان للطوالع تأثير في هذا لامتنع عند اختلافها الاشتراك في ذلك.
ولا ينفعهم الجواب بأن طالع الوقت قد يكون أقوى من طالع الأصل، فيكون الحكم له. لانا نقول: هذا بعينه يبطل الجزم بطالع ويحيل القول بتأثيره، فلعل طوالع الأحوال المتجددة أقوى من طالع الأصل فيرتفع الوثوق بطالع الأصل، إذ لا أمان لاقتضاء الطوالع بعد ضدّ ما اقتضاه، وحينئذ فلا يفيد اعتباره شيئاً.
وأيضاً فإنه لو كان طبيعياً وذاتياً لما اختلف، والتالي باطل فالمقدم مثله. أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان التالي فإن المنجمين قلما يجمعون على شيء ويكون كذلك. فمن ذلك اتفاق حذاقهم سنة سبع وثلاثين عام صفين في مخرج علي رضي الله عنه من الكوفة إلى محاربة أهل الشام على إنه يقتل ويقهر جيشه، فظهر كذبهم وانتصر جيشه على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص منهم إلا بالحيلة التي وضعوها من نشر المصاحف على الرماح والدعاء إلى ما فيها.
ومن ذلك اتفاقهم عند ما تم بناء بغداد سنة ست وأربعين ومائة على أن طالعها يقتضي إنه لا يموت فيها خليفة، وشاع ذلك حتى هنأ الشعراء به المنصور حيث قال بعض شعرائه:
يهنيك منها بلدة تقضي لنا ... إن الممات بها عليك حرام
لما قضت أحكام طالع وقتها ... أن لا يرى فيها يموت أمام
وأكد هذا الهذيان في نفوس العوام موت المنصور بطريق مكة ثم المهدي بما سبذان ثم الهادي بعنيساباد ثم الرشيد بطوس، فلما قتل بها الأمين بشارع باب الأنبار انخرم

الصفحة 25