كتاب الفلاكة والمفلوكون

وهو الشهادة أن حقيقة حرفة الشهادة ملكة يقتدر بها على التعبير عن مقاصد المشهود له وعليه بلفظ صحيح متعارف مسترف لمقاصدهما بشروط شرعية وعلى إفراغ مقاصدهما في قالب شرعي إن كانت غير شرعية، وغايته تحويل عبارة المشهود له وعليه العامية إلى عبارة يرتضيها العلماء وتحويل تصويرهما الفاسد إلى صورة شرعية.
ثم لا يلزم من تحصيل هذه الملكة وإجادتها الحصول على ثمرتها والرواج فيها، بخلاف القسم الأول من الحدادة ونحوها، فإن من علمها وأجادها حصل على ثمرتها.
وحكم سائر الحرف الهوائية كالدلالة والنقابة في عدم إفضائها بالعارف بها إلى مقصودها حكم الشهادة، ولك أن تجعل ذلك حداً رسمياً للحرف الهوائية، فيقال في
حدها: حرفة لا يلزم من العلم بها وإجادتها الحصول على ثمرتها.
والحاصل أن الحرفة الشهادة موانع من حصول ثمرتها والمقصود منها، ولها مفاسد ونقائص عاجلة ومضار أخروية آجلة.
فأما الموانع فأمور:
(منها) أن حرفة الشهادة من قبيل الاحتراف بالعلم، والعلم كما سيجيء تحقيقه في الفصل الخامس أقبل شيء للخفاء والجحد والجهل بقدره من صاحبه، وأقبل شيء للإضافة إلى غير أهله بالحظ والجاه والتلبيس وسكوت معور عن معور، وإذا كان كذلك فقد بدور الرواج في الشهادة مع الهيئة والزي الظاهر واللباس الفاخر، ويخفى مكان الاتصاف بحرفة الشهادة على التفسير السابق، فيفوت الرواج بفوات الهيئة واللباس، وهناك ينشد:
أرى ثياباً ولكن حشوها بقر ... بلا قرون وذا عيب على البقر
(ومنها) أن مبنى حرفة الشهادة على العوام، وهم مربوطون بأوهامهم وواقفون مع مألوف عاداتهم ولا تمييز لهم بتفهم كتابة وكتابة والتقليد وظيفتهم وذاتي لهم، فلا يستعملون في وثائقهم ومكاتيبهم مجهولا لهم لتوهمهم فيه إفساد مكاتيبهم، ويلزم من عدم استعمال المجهول استمراره على خمولة ومجهوليته أبد الآبدين ودهر الداهرين.
(ومنها) أن مبنى الرواج على الشهرة، والشهرة إما بقدمية أو بتشهير مقبول القول، فأما القدمية فليس المراد بها طول الإقامة في مكان بل كثرة الكتابة التي للشاهد في أيدي الناس المحركة لدواعيهم في استعماله التي يستلزم بعضها بعضاً، والدخيل خال عن ذلك. وقدمنا أن الشخص المجهول لا يستعمل، والمكث المجرد عن الكتابة لا يفيد شيئاً، حتى لو أقام الدخيل أبد الآبدين

الصفحة 32