كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 3)

للطائفتين المتقدمتين، وإن كانت في الكفار، فعموم الموصول صاع للاستدلال به، وعليه فيتحصل أن الإيمان (¬1) قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالقلب.
¬_________
(¬1) وهو تعريف أهل السنة وقد حكى غير واحد منهم الإجماع على ذلك كابن عبد البر في التمهيد (9/ 248) اتباعا للنصوص القرآنية:
(منها): ما يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.
قال تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14].
قال تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة:22].
وقال تعالى: {يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41].
(منها): ما يدل على أن الإيمان إقرار باللسان.
قال تعالى: {قولوا ءامنا بالله ومتا أنزل إلينا} [البقرة:136].
قال تعالى: {وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} [العنكبوت:46].
(ومنها): ما يدل على أن الإيمان عمل الجوارح: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
أخرجه البخاري رقم (9) ومسلم رقم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوفد عبد القيس: " .... أتدرون ما الإيمان بالله وحده "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ". أحرجه البخاري في صحيحه رقم (53) ومسلم في صحيحه رقم (17).
تنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة.
وكل هذا صحيح، فلس بين هذا العبارات اختلاف معنوي، كما بينه ابن تيمية في " مجموع فتاوى"- (7/ 170، 171، 505، 506) - فقال: إذا قالوا: قول وعمل فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعا، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولا إلا بالتقييد. كقوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11]. وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر.
ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك, فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على "المرجئة" الذين جعلوه قولا فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه "أربعة أقسام " فسروا مرادهم. كما سئل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولا وعملا ولية بلا سنة فهو بدعة ".

الصفحة 1206