كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 3)

بسم الله الرحمن الرحيم
أشكل على السائل - ألهمه الله حقيقة الأمر إن شاء الله- وجه الاختلاف في إسناد (الإرادة) في قوله تعالى مع حكايته عن الخضر (¬1) (عليه السلام) حيث أسند له في بيان
¬_________
(¬1) أ- الخضر: أخرج البخاري في صحيحه رقم (3402) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". .
الفروة أرض بيضاء لا نبات فيها.
وحكى عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صفى اخضر ما حوله.
ب- اسمه:
قال الحافظ في الفتح (6/ 433): وقد اختلف في اسمه قبل ذلك وفي اسم أبيه وفي نسبه وفي نبوته وفي تعميره ... ".
وقد أفرد ابن حجر لذلك مؤلفا ذكر فيه تفصيل ذلك كله وهو " الزهر النضر في نبأ الخضر".
قيل: هو ابن "ادم" من صلبه وهو قول مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد أخرجه الدارقطني في "الأفراد" وهو منقطع غريب.
وقيل إنه "ابن قابيل بن ادم" ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين وهذا معضل.
وقيل: أنه " بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
وهذا قال "ابن قتيبة" وحكاه النووي.
وقيل: إنه " إليسع" حكى عن "مقاتل" أيضًا وهو بعيد.
وقيل: إنه من ولد بعض من كان آمن ب "إبراهيم" وهاجر معه من أرص "بابل" حكاه "الطبري" في تاريخه .... ... "
وقال النووي: كنيته أبو العباس وهذا متفق عليه. كما ذكره الحافظ في المصدر المذكور.
ولتعلم أن اسم الخضر لم يذكر في القران، وإنما ذكرت فيه قصته مع نبي الله موسى عليه السلام، وصرحت السنة باسمه، كما في حديث ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذكر القصة.
وقد أخرجه البخاري قي صحيحه رقم (74 و78، 2267، 2728، 3278 و3400 و3401 و4725، 4726، 4727، 6672، 7478) ج- الاختلاف في نبوة الخضر:
قال الحافظ في الفتح (6/ 433) " وحكى ابن عطية البغوي عن أكثر أهل العلم أنه نبي، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟.
وقالت طائفة منهم القشيري هو ولي.
ثم قال الحافظ في الفتح (6/ 434): " قال القرطبي: هو نبي عند الجمهور والآية-[الكهف:66] {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} - تشهد بذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء".
قال الفخر الرازي في تفسيره (22/ 148) والأكثرون أن ذلك العبد كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه: (الحجة الأولى): انه تعالى قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف: 65] والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] والمراد هذه الرحمة النبوة.
(الحجة الثانية): قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}، وهذا يقتضى أنه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله.
(الحجة الثالثة): إن موسى عليه السلام قال: {أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، والتي لا يتبع إلا نبي في التعليم.
(الحجة الرابعة): إن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68].
وأما موسى فإنه أظهر التواضع حيث قال: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]
وكل ذلك يدل على أن ذلك العالم كاد فوق موسى ومن لا يكون نبيا لا يكون فوق نبي.
(الحجة الخامسة): احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} وهو يدل على النبوة.
(الحجة السادسة): ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام: من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي. .
وقد رجح ابن حجر نبوة الخضر ونقل ذلك عن جمهور العلماء. الفتح (8/ 422).
والراجح: هو أن الحضر عليه السلام نجي من أنبياء الله وليس ولى فقط كما تزعم المتصوفة ومن سار على نهجهم وهذا يبطل دعوى الصوفية بأن الولي أعلم من النبي بناءا على قصة الخضر مع موسى حيث يدعون أن الأولياء يعلمون علم الحقيقة الذي لا يعلمه الأنبياء ويستدلون هذه القصة. .
قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (11/ 420 - 426): "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون على وجهين:
(أحدهما): أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة والمشيئة الإلهية العامة وهى الحقيقة الكونية فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهى وهو من عظيم الجهل والضلال بل من أعظم النفاق والكفر فإن مضمون هذا الكلام أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء لم يكن عليه أمر ولا نهي وهذا كفر بجميع كتب الله ورسله وما جاءوا به من الأمر والنهي .. وهؤلاء هم القدرية الشركية الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهى هم من شر القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة الذين روى فيهم " إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم لا لأن هؤلاء يقرون الأمر والنهي والثواب والعقاب لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق وربما أنكروا سابق العلم.
وأما القدرية الشركية فإنهم ينكرون الأمر والنهى والثواب والعقاب لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد ويكفرون بجميع الرسل والكتب فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالثواب ومنذرين من عصاهم بالعقاب.
وأيضا فإذا موسى عليه السلام كان مؤمنا بالقدر عالما به بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضًا مؤمنين بالقدر لهل يظن من له أدلى عقل أن موسى طلب أن بتعلم من الخضر الإيمان بالقدر وأن ذلك يدفع الملام مع أن موسى أعلم بالقدر من الحضر بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك.
وأيضا فلو كان هذا هو السر قي قصة الحضر لبين ذلك لموسى وقال: " إني كنت شاهدا للإرادة والقدر" وليس الأمر كذلك بل بين له أسبابا شرعية تبيح له ما فعل.
(الوجه الثاني): فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقا وإما من بعض الوجوه على النبي زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم وكل هذه مقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجميع الناس عربهم وعجمهم وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم وأنها باقية إلى يوم القيامة بل لعامة الثقلين الجن والإنس وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج من متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات بل لو كان المتقدمون قبله أحيانا لوجب عليهم متابعته وطاعته .... ومما ببين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته بل قد ثبت في الصحيح أن الخضر قال له: "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنه على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه" وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال فيما فضله الله به على الأنبياء قال: " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" فدعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاملة لجميع العباد وليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته ولا استغناء عن رسالته كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته مستغنيا عنه.
كلا علمه الله وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعته فهو كافر باتفاق المسلمين وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى ولم يختلفا حينئذ ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى لما وافقه ".
انظر: فتح الباري (1/ 436)، مدارج السالكين (2/ 746). . تعميره:
1/ قال الحافظ في الفتح (6/ 434 - 435): " قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم قي ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين وتبعه النووي، وزاد أن ذلك متفق عليه بين الصوفية، وأهل الصلاح وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر".
ضم ذكر الحافظ كثيرا من هذه الروايات وقد حكم عليها الحافظ بالضعف ولهم في ذلك أيضًا حكايات غريبة لا تثبت أمام التحقيق العلمي.
(منها) ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسيء لـ (الخضر) في أجله حتى يكذب "الدجال". -
وفي سنده داود بن الجراح وهو ضعيف عن مقاتل بن سليمان وهو متروك، عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يدرك ابن عباس.
(ومنها) ذكر ابن اسحاق في "المبتدأ" قال: حدثنا أصحابنا أن "آدم" لما حضره الموت جمع بنيه وقال: إن الله تعالى منزل على "أهل الأرض" عذابا، فليكن جسدي معكم في المغارة، حتى تدفنوني بأرض "الشام" فلما وقع الطوفان قال "نوح" لبنيه: إن "آدم" دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى "يوم القيامة" لم يزل جسد "آدم" حتى كان "الخضر" هو الذي تولى دفنه وأنجر الله له ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.
(ومنها): ما روي عن الحسن البصري قال: وكل "إلياس" بالفيافي، ووكل "الخضر" بالبحور، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى، وإنهما يجتمعان في موسم كل عام.
وانظر: بقية الروايات والحكايات الغريبة في " الزهر النضر في نبأ الخضر" ص 33 - 48.
وقال الحافظ قي الفتح (6/ 434 - 435) وأخرج النقاش أخبارا كثيرة تدل على بقائه- الخضر- لا تقوم بشيء منها حجة".
وقال الحافظ: والذي تميل إليه النفس، من حيث الأدلة القوية ما يعتقده "العوام" من استمرار حياته، لكن ربما عرضت شبهة من جهة كثرة الناقلين للأخبار الدالة على استمراره، فيقال: هب أن أسانيدها واهية، إذ كل طريق منها لا يسلم من سبب يقتضى تضعيفها، فماذا يصنع في المجموع؟ فإنه على هذه الصورة قد يلتحق بالتواتر المعنوي الذي مثلوا به بجود "حاتم " فمن هنا مع احتمال التأويل في أدلة القائلين بعدم بقائه. أ- كآية {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]. ب- وحديث ابن عمر وجابر وغيرهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في آخر حياته: " لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد".
قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه.
أخرجه البخاري رقم (601) ومسلم رقم (217). ج- وحديث ابن عباس "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه " أخرجه البخاري ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قاتل معه وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" فلو كان الخضر موجودا لم يصح هذا النفي، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رحم الله موسى لوددنا لو كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما" فلو كان الخضر موجودا لما حسن هذا التمني ولأحضره بين يديه وأراه العجائب وكان لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب.
وقال الحافظ في " الزهر النضر في نبأ الخضر" ص 115: وأقوى الأدلة على عدم بقائه عدم مجيئه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانفراده بالتعمير من بين أهل الأعصار المتقدمة بغير دليل شرعي.
والذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته، ولو ثبت أنه ملك من الملائكة لارتفع الإشكال، كما تقدم والله أعلم".
وانظر فتح الباري (6/ 435 - 436)

الصفحة 1253