كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 4)

انتهى كلام السائل - عافاه الله - أقول: وينبغي هاهنا أن نقدم بيان ماهية الصحيح عند أهل الاصطلاح فنقول: قال الخطابي (¬1) فالحديث الصحيح عند أهل الحديث ما اتصل سنده وعدلت نقلته. وكذا قال في معالم السنن حاكيًا لذلك عن أهل الحديث، ولم يشترط الضبط ولا السلامة من شذوذ ولا علة. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح (¬2) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء. فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء (¬3) انتهى. قلت: هذه مناقشة لاصطلاح قوم باصطلاح قوم
¬_________
(¬1) في معالم السنن (1/ 11).
(¬2) (ص186).
(¬3) ومثال: ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمة منه، فإن الفقيه والأصولي يقولون: المثبت مقدم على النافي فيقبل.
والمحدثون يسمونه شاذًا لأنهم فسروا الشذوذ بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين.
ومن ذلك أيضًا ما إذا روى العدل الضابط عن تابعي عن صاحبي حديثًا، فيرويه ثقة آخر عن هذا التابعي بعينه عن صحابي آخر غير الأول، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معًا.
وبعض المحدثين يعلون بهذا متمسكين بأن الاضطراب في الحديث دليل على عدم الضبط في الجملة. انظر: فتح المغيث (1/ 19 - 20).
ويوضح هذا الكلام الحافظ زين الدين العراقي في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 20 - 21): حيث يقول والجواب أن من يصنف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله لا من عند غيرهم من أهل علم آخر.
وفي مقدمة مسلم: "1/ 30 - 31" أن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار، وليس بحجة، وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما على أن المصنف قد احترز عن خلافهم وقال بعد أن فرغ من الحد وما يحترز به عنه، فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث.
وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل. وقد احترز المصنف عما اعترض به عليه؛ فلم يبق للاعتراض وجه، والله أعلم.
وقوله: بلا خلاف بين أهل الحديث إنما قد نفى الخلاف بين أهل الحديث، لأن غير أهل الحديث قد يشترطون في الصحيح شروطًا زائدة على هذه كاشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة. فقد حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة على أنه قد حكى أيضًا عن بعض أصحاب الحديث.
قال البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - رحمهما الله - رأيت في الفصول التي أملاها الشيخ - رحمه الله - حكاية عن بعض أصحاب الحديث أنه يشترط في قبول الأخبار أن يروي عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يذكر قائله إلى آخر كلامه، وكان البيهقي رآه من كلام أبي محمد الجويني فنبهه على أنه لا يعرف من أهل الحديث والله أعلم.

الصفحة 1607