كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 4)

على دعواه كالصيرفي، إلى غير ذلك مما يفيد أن العلل أمر لا يدركه إلا الأفراد. انتهى أقول: قد تقررنا فيما سبق أن الحديث المشتمل على الأمور الخمسة هو الصحيح المجمع عليه، لا أنه يعتبر ذلك في كل صحيح، وأيدنا ذلك بنقل كلام الخطابي، [8] وابن دقيق العيد، وبنقل كلام الحافظ ابن حجر. إن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره. وبنقل كلامه أيضًا أن الصحيح أنواع: بعضها أعلى من بعض، وبما ذكرناه من أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في أحدهما ثم ما هو على شرطهما، ثم شرط أحدهما، وبينا أنه لا شرط لهما إلا مجرد كون الرجال ثقات، والسند متصل، ولمجموع هذا يعرف أنها لم تتفق كلمة أهل الحديث على اشتراط الأمور الخمسة التي ذكرها السائل -أدام الله فوائده- حتى يرد الأشكال على تصحيح من صحح بمجرد كون الرجال ثقات والسند متصل، بل ذلك هو مذهب جماعة منهم، بل مذهب القدماء منهم، بل لم يعتبر في الرتب التي للصحيح إلا ذلك لما قدمنا أنها سبع، وأن ستًا منها دائرة على شرط الشيخين ورجالهما، وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما، أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا مجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات كما سبق تقريره غير مرة. بل قد أسلفنا عن أئمة الحديث أن في رجال الصحيحين من لم يسلم من غوائل الجرح، وأن البخاري يخرج حديث الطبقة العالية (¬1).
وقد يخرج حديث الطبقة التي تليها. ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث الطبقة الثالثة، مع أن في هؤلاء جماعة ضعفاء مشهورين، بل جزم جماعة من الحفاظ بأن معلقات البخاري (¬2) إذا أوردها بصيغة الجزم كقوله: قال فلان. أو روى فلان من جملة
¬_________
(¬1) انظر: شروط الأئمة (ص 151) تدريب الراوي (1/ 75).
(¬2) عرف ابن حجر التعليق في الجامع الصحيح، فقال: "هو أن يحذف من أول الإسناد رجلًا، فصاعدا معبرًا بصيغة لا تقتضي التصريح بالسماع. مثل قال، وروى، وزاد، وذكر، أو يروى ويذكر، ويقال، وما أشبه ذلك من صيغ الجزم والتمريض" اهـ.
فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين:
- أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولًا.
وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقًا.
فالأول: يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار، خشية التطويل.
والثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإنه على صورتين:
- إما أن يورده بصيغة الجزم.
- وإما إن يورده بصيغة التمريض.
فالصيغة الأولى: يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لأنه لا يستجيز أن يجزم عنه بذلك، إلا وقد صح عنده عنه.
فإذا جزم به عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن الصحابي عنه فهو الصحيح، أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابي؛ فلا يحكم بصحة الحديث مطلقًا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق.
1 - \ إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراد هذا مستوفي السياق، ولم يهمله، بل نبه عليه فأورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار.
مثال ذلك: ما علقه في كتاب الجزية (58) في باب إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا رقم: (11) فإنه ترجم ببعض ما ورد في الحديث وهو قوله "صبأنا" ولم يورده موصولًا في الباب، واكتفى بطرق الحديث التي وقعت هذه اللفظة فيه.
2 - \ وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه، وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه عن شيخه مذاكرة، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه.
فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة وقال عثمان بن الهيثم أبو عمر، ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام الحديث بطوله
وأوردها في موضع أخرى منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه.
الصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض فما علق بها لا تغير الصحة عن المضاف إليه لأن مثل تلك العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضًا، قال ابن الصلاح: "لكن لا تحكم على ذلك بأنه ساقط جدًا لإدخاله إياه في الكتاب الموسوم بالصحة قال ابن الصلاح: فإيراده في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه.
- والتعاليق التي أوردها بهذه الصيغة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما أورده في موضع آخر من جامعه، ومنها ما لم يورده.
- فما أورده في جامعه فهو صحيح على شروطه، لكنه قليل، وإنما علقه بصيغة التمريض، لكونه رواه بالمعنى أو اختصره.
- مثاله قوله في كتاب مواقيت الصلاة، ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند صلاة العشاء، فأعتم بها، وقد وصله في باب فضل العشاء، من نفس الكتاب، ولفظه فيه، فكان يتناوب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عند صلاة العشاء، كل ليلة نفر منهم .. الحديث.
قال الحافظ: وإنما علقه بصيغة التعريض لإيراده بالمعنى، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل، وأجاب به على من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة، وصيغة التمريض لا تدل، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض، بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى وكذا الاقتصار على بعضه، لوجود الاختلاف بجوازه، وإن كان المصنف - ابن حجر في فتح الباري (2/ 46) - يرى الجواز.
انظر تعليق التعليق (1/ 295 - 297).
فائدة: المعلق في صحيح البخاري كثير جدًا، ففيه من التعاليق ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون، وأكثرها مخرج في أصول متونه، والذي لم يخرجه مائة وستون حديثًا قد وصلها الحافظ ابن حجر في تأليف مستقل سماه "التوفيق" وفيه من التنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة وأربعة وثمانون.
وله في جميع التعاليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سماه "تعليق التعليق" واختصوه بحذف أسانيده، وسماه التشويق إلى وصل المهم من التعليق.

الصفحة 1618