كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 4)

الحافظ إذا أطلق على هذا السند، كون رجاله ثقات، وكان له علة فيبعد أن لا يذكرها بأن يقول: رجاله ثقات وله علة مثلًا، وهذا قد يسلم فيما نص على ثقة رجاله حافظ.
إنما الشأن فيمن وقف في هذه الأزمان على ثقة رواة حديث في كتاب من كتب الجرح والتعديل، ولم يكن من أهل الحفظ والإتقان، حتى يعلم مخالفة راوي الحديث لمن هو أوثق منه، أو يعلم بعلة قادحة. أما من رزقه الله حفظًا واسعًا، وتمكنًا فلا فرق بينه وبين الأوائل إلا بتقدم العصور (¬1)
ولسنا - بحمد الله تعالى - ممن يفضل بتقدم العصر، ولكن
¬_________
(¬1) قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 16 - 17): إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصًا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها - لشهرتها - من التغيير والتحريف. . .
وخالفه النووي في التقريب (1/ 78 - 83) فقال: والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته.
وقال العراقي في ألفيته (22 - 23): وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحًا كأبي الحسن بن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم ومن بعدهم.
وقال الحافظ ابن حجر "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك التقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان".
وقد كتب السيوطي في هذه المسألة بحثًا خاصًا سماه:
"التنقيح لمسألة التصحيح" جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجًا حسنًا فقال: والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده.
وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان:
صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره. والذي منعه ابن الصلاح، إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته.
وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تعد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة؛ لاتصاله وثقة رجاله، فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعًا؛ لأن مجرد ذلك لا يكتفى به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ، ونفي العلة، والوقوف على ذلك؛ لأنه متعسر بل متعذر؛ لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة؛ فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرًا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثًا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان.
وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره، ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته
وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82) والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله.

الصفحة 1648