كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 4)

الصحيحة فيخالطها فتجرب، حيث رد عليه بقوله: "فمن أعدى الأول" يعني أن الله سبحانه ابتدأ في الثاني كما ابتدأه في الأول. قال: وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ويعتقد تأثير العدوى فيقع في الحرج فأمر بتجنبه حسما للمادة انتهى. وقد ذكر مثل هذا في فتح الباري (¬1) في كتاب الجهاد منه.
والمناسب للعمل الأصولي أن تجعل الأحاديث الواردة بثبوت العدوى في بعض الأمور أو الأمر بالتجنب أو الفرار مخصصة لعموم حديث (لا عدوى) ما ورد في معناه كما هو شأن العام والخاص فيكون الوارد في الأحاديث في قوة لا عدوى إلا في هذه الأمور، وقد تقرر في الأصول أنه يبنى العام على الخاص مع جهل التاريخ. وادعى بعضهم أنه إجماع.
والتاريخ في هذه الأحاديث مجهول ولا مانع من أن يجعل الله سبحانه في بعض الأمراض خاصية يحصل بها العدوى عند المخالطة دون بعض (¬2)، وقد ذهب إلى نحو هذا
¬_________
(¬1) (6/ 61).
(¬2) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (4/ 140 - 143): والعدوى جنسان:
أحدهما: عدوى الجذام فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأة تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد، فيوصل إليها الأذى وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إليه، وكذلك من كان به سل ودق ونقب، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم. ولا يريدون بذلك معنى العدوى وإنما يريدون به معنى تغيير الرائحة، وأنها قد تسقم من أطال اشتمالها والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيمن وشؤم، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها، وأوى في مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وبالنطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يورد ذو عاهة على مصح" كره أن يخالط المعيوه الصحيح، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو ما به.
قال: وأما الجنس الآخر من العدوى، فهو الطاعون ينزل ببلد، فيخرج منه خوف العدوى وقد قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا وقع ببلد وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كان ببلد فلا تدخلوها" - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5729) ومسلم رقم (2219) من حديث عبد الله بن عباس.
يريد بقوله، لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله، ويريد إذا كان ببلد، فلا تدخلوه. أي: مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لقلوبكم، وأطيب لعيشكم، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة، فيقول: أعدتني بشؤمها، فهذا هو العدوى لذي قال في رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا عدوى".
- وقالت طائفة: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار، والإرشاد، وأما الأكل معه، ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام.
- وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يليق بحاله فبعض الناس يكون قوي الإيمان قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى، كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها وبعض الناس لا يقوى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفظ، وكذلك هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الحالتين معًا، لتقتدي به الأمة فيهما فيأخذ من قوي أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفظ والاحتياط وهما طريقان صحيحان:
أحدهما: للمؤمن القوي، والآخر للمؤمن الضعيف فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدرة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل، وترك الطيرة ولهذا نظائر كثيرة، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدًا من أعطاها حقها، ورزق فقه نفسه، أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنه بالسنة الصحيحة.
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه، ومجانبته لأمر طبيعي وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح. وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقدارًا يسيرًا من الزمان لمصلحة راجحة، فلا باس به، ولا تحصل العدوى من مرة ولحظة واحدة، فنهى سدًا للذريعة، وحماية للصحة، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارض بين الأمرين.
- وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله، وليس الجذمى كلهم سواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم، بل منهم من لا تضر مخالطته، ولا تعدي، وهو من أصابه من ذلك شيء يسير، ثم وقف واستمر على حاله، ولم يعد بقية جسمه فهو أن لا يعدي غيره أولى وأحرى.
- وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه، فأبطل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتقادهم ذلك، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشيء بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئًا، وإن أبقى عليها قواها فأثرت.
- وقالت فرقة أخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ، فينظر في تاريخها، فإن علم المتأخر منها، حكم بأنه الناسخ، وإلا توقفنا فيها.
- وقالت فرقة أخرى: بل بعضها محفوظ، وبعضها غير محفوظ، وتكلمت في حديث "لا عدوى" وقال: قد كان أبو هريرة يرويه أولاً، ثم شك فيه فتركه وراجعوه فيه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يحدث به.
قال أبو سلمة: فلا أدري، أنسي أبو هريرة، أم نسخ أحد الحديثين الآخر؟
وأما حديث جابر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيد مخذوم، فأدخلها معه في القصعة فحديث لا يثبت ولا يصح، وغاية ما قال فيه الترمذي: إنه غريب لم يصححه ولم يحسنه. وقد قال شعبة وغيره: اتقوا هذه الغرائب. قال الترمذي: ويروى هذا من فعل عمر، وهو أثبت، فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي.
أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره.
والثاني: لا يصح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم - تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
وانظر: "مفتاح دار السعادة" (3/ 364 - 379). "فتح الباري" (10/ 158 - 161).

الصفحة 1952