كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 6)

كثيرة (¬1) لا يتسع لها المقام، فينبغي أن يجعل القياس عليهما هو الدليل السابع والثامن بجامع القربة. وقد خصص عموم مفهوم الآية والحديث بمخصصات كثيرة، منها ما ذكرنا، ومنها غيره. وقد بسطتها بأطول من هذا في شرح المنتقى (¬2). ولا يخفى على
¬_________
(¬1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1630) والنسائي (6) عن أبي هريره - رضي الله عنه -: " أن رجلا قال للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فيه، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم ".
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2760) ومسلم رقم (112) وأبو داود رقم (2881) والنسائي (6).
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم.
(¬2) في (2/ 784 - 786).
قال الشوكاني في " يبل الأوطار " (2 - 786): " وأحاديث الباب تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليها ثوابها، فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ولكن ليس في الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأمام من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها، حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.
قال الألباني في " أحكام الجنائز ": " وهذا هو الحق الذي تقضيه القواعد العلمية، أن الآية على عمومها وأن ثواب الصدقة وغيرها يصل من الولد إلى الوالد لأنه من سعيه بخلاف غير الولد، لكن قد نقل النووي وغيره الإجماع على أ، الصدقة تقع عن الميت ويصله ثوابها. هكذا قالوا: " الميت " فأطلقوه، ولم يقيدوه بالوالد فإن صح هذا الإجماع كان مخصصا للعمومات التي أشار إليها الشوكاني فيما يتعلق بالصدقة، ويظل ما عداها داخلا في العموم كالصيام وقراءة القرآن ونحوهما من العبادات، ولكنني في شك كبير من صحة الإجماع المذكور، وذلك لإمرين:
الأول: أن الإجماع بالمعنى الأصولي لا يمكن تحققه في غير المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، كما حقق ذلك العلماء الفحول، كابن حزم في أصول الأحكام والشوكاني في " إرشاد الفحول " والأستاذ عبد الوهاب خلاف كتابه " أصول الفقه " وغيرهم.
الثاني: أنني سبرت كثيرا من المسائل التي نقلوا الإجماع فيها، فوجدت الخلاف فيها معروفا بل رأيت مذهب الجمهور على خلاف دعوى الإجماع فيها. .....
ثم قال الألباني رحمه الله: وذهب بعضهم إلى قياس غير الولد على والوالد، وهو قياس باطل من وجوه:
الأول: أنه مخالف للعموميات القرآنية كقوله تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) [فاطر: 18] وغيرها من الآيات التي علقت الفلاح ودخول الجنة بالأعمال الصالحة ولا شك أن الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجره بخلاف غيره.
الثاني: أنه قياس مع الفارق إذا تذكرت أن الشرع جعل الولد من كسب الوالد كما سبق في حديث عائشة فليس هو كسبا لغيره، والله عز وجل يقول: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ويقول سبحانه (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
وقال ابن كثير في تفسيره قوله تعالى ((وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى): أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.
وقال العز بن عبد السلام في " الفتاوى " (2): " ومن فعل طاعة لله تعالى ثم أهد ثوابها إلى حي أو ميت، لم ينتقل ثوابها إليه إذ (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) فإن شرع في الطاعة ناويا أن يقع عن الميت لم يقع عنه إلا فبما استثناه الشرع كالصدقة والصوم والحج "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات العلمية " (ص 54): " ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا أو حجوا تطوعا أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل ".
وانظر تفصيل ذلك في " أحكام الجنائز " (ص218 - 225).

الصفحة 3174