كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 6)

يكون القيام من المجلس لمن له الفضلة غير موجودة في من قام له كراهة ولا إثم قام طيبة بذلك نفسه، غير مكره ولا محمول على ذلك. فإن فعل هذا كان متأدبا بأدب حسن، وإن ترك فهو أحق بمجلسه الذي سبق إليه، لا يجوز لأحد أن يقعد فيه، وقد صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أنه: " إذا قام من مجلسه ورجع إليه فهو أحق به " كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم (¬1) غيره (¬2) من حديث أبي هريرة مشروط بأن لا يكون وقع التأثير له بصدر المجلس راغبا في ذلك، ومحبا له، فإن كان كذلك فهو غير ناج من الإثم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " من أحب أن يتمثل الناس له صفوفا فليتبوأ مقعده من النار "، وقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا " أخرجه أبو داود (¬3)،
¬_________
(¬1) في صحيحه رقم (2179).
(¬2) كأبي داود رقم (48 53) وابن ماجه رقم (3717) وهو حديث صحيح.
(¬3) في " السنن " رقم (5230).
قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2915) وأحمد (4، 100) من حديث معاوية وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (1 - 376): لم تكن عادة السلف على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما فعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم " وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه.
والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى.
وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع أن لا يقر بذلك مع أصحابه، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك إيذاء له. وليس هذا القيام المذكور في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من سره أن يتمثل له الرجل قياما فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا المجيئه إذا جاء ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. ... ".
وقال النووي في " الترخيص في الإكرام بالقيام " (ص 67): الأصح والأولى والأحسن بل الذي لا حاجة إلى ما سواءه أنه ليس فيه دلالة، وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب قيام الناس له وليس فيه تعرض للقيام، بنهي ولا غيره وهذا متفق عليه وهو أن لا يحل للآني أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته للقيام، ولا يشترط كراهته لذلك، وحضور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر بباله ذلك فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه.
وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرمة، فإذا أحب فقد ارتكب التحريم سواء قيم له أو لم يقم، فمدار التحريم على المحبة ولا تأثير بقيام القائم ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. .".
ونقل الحافظ ابن حجر في " الفتح " (11 - 54) جواب ابن الحاج على النووي فقال: واعترضه ابن الحاج بأن الصحابي الذي تلقى ذلك من صاحب الشرع قد فهم منه النهي عن القيام الموقع الذي يقام له في المحذور، فصوب فعل من أمتنع من القيام دون من قام، وأقروه على ذلك.
وكذا قال ابن القيم في " حواشي السنن ": في سياق حديث معاوية رد على من زعم أن النهي إنما هو في حق من يقوم الرجال بحضرته، لأن معاوية إنما روى الحديث حين خرج فقاموا له، ثم ذكر ابن الحاج من المفاسد التي تترتب على استعمال القيام أن الشخص صار لا يتمكن فيه من التفصيل بين من يستحب إكرامه وبره كأهل الدين والخير والعلم. أو يحوز كالمستورين. وبين من لا يجوز كالظالم المعلن بالظلم أو جر ذلك إلى ارتكاب النهي لما صار يترتب على الترك من الشر، وفي الجملة حتى صار ترك القيام يشعر بالاستهانة أو يترتب عليه مفسدة امتنع. وإلى ذلك أشار ابن عبد السلام.
ونقل ابن كثير في تفسيره عن بعض المحققين التفصيل فيه فقال: المحذور أن يتخذ ديدنا كعادة الأعاجم كما دل حديث أنس، وأما كان القادم من سفر أو لحاكم في حمل ولا يته فلا بأس به.
قلت: - ابن حجر - ويلتحق بذلك ما تقدم في أجوبة ابن الحاج كالتهنئة لمن حدثت له نعمة أو لإعانة العاجز أو لتوسيع المجلس أو غير ذلك والله أعلم.
وقال الغزالي: القيام على سبيل الإعظام مكروه وعلى سبيل الإكرام لا يكره ".

الصفحة 3198