كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 9)

الملوك، لتعطلت الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهارًا لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه، وحصل لهم الغرض الموافق لهم، وخبطوا في دين الإسلام كيف شاءوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس، وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب، وعلى دولتهم أن تذهب، وعلى أموالهم أن تنهب، وعلى حرمتهم أن تنتهك [3أ]، وعلى عزهم أن يذل، ووجدوا أعظم السبل إلى التخلص عن أكثر أحكام الإسلام قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فر عنا العارفون بالدين، وهرب منا العلماء العاملون، وفي الحقيقة أنهم يعدون ذلك فرصة انتهزوها، وشدة أطلقت عن أعناقهم، وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها، والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحًا بذلك، وأعظم سرورًا منهم، فإنه قد خلى بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء، ويستعبدهم كيف أراد. وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها، ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها.
وسبب هذا البلاء العظيم، والخطب الوخيم، والوزر للإسلام وأهله - الذي لا يقادر قدره، ولا يتهيأ به الدهر مثله - صنفان من الناس:
الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم، وعبدوا بغير فهم، وتورعوا بغير إدارك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية، وما يفضي إلى تعطل الأحكام، وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدوا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن، وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها، ويصدرونها مصادرها، جعلوا - لقصورهم - أهل المناصب الدينية - التي لا يتم أمرها، ولا ينفذ حكمها إلا سلطان الأرض وملك البلاد - من جملة أنواع الظلم، وجعلوا

الصفحة 4672