كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 9)

صاحبها من جملة أعوان الظلمة، وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص، مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها، وقبلوها حق قبولها، لخلو أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فصار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين.
ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين يقصون على الناس، ويتصدرون لوعظهم، وتذكرهم بما هم عليه من جهل بالشريعة، وبما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة، والقصص الباطلة، وإن عليهم أن يقصروا عن ذلك، ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة، الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم.
والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم، وأهلية له [3ب]، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب الدينية، التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك، وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه، وأنهم تركوه اختيارًا ورغبة، وتنزهًا عنه، وضربت ألسنهم بسبب أهل المناصب الدينية، وثلب أعراضهم، والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك، وأخذ بعض من بيوت الأموال، وأن أهل المناصب قد صاروا أعوانًا للظلمة، ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي، والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع أهل التعفف عن ذلك، والتورع عنه بنيات فاسدة، ومقاصد كاسدة، مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق، والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة، بغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل:
يدعو وكل دعائه ... ما للفريسة لا تقع
عجل بها يا ذا العلا ... إن الفؤاد قد انصدع
وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات، وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من

الصفحة 4673