كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 9)
ولو في بعض الأحوال، هل يجوز قبول ما يجعلونه منه لأهل المناصب؟.
قلت: نعم، للحديث السابق أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -قال لعمر: " ما أتاك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك " (¬1). وثبت أنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -فرض الجزية على أهل الكاتب، وكانت من أطيب المال داخله، مع أن في أموالهم ما هو أثمان من الخمر والخنزير، ومن الربا فإنهم يتعاملون به، وصح عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -أنه استقرض من يهودي طعامًا، ورهن درعه. فيأخذ من له جراية من بيت مال المسلمين ما يصل إليه منه من غير كشف عن حقيقته، إلا أن يعلم أن ذلك هو الحرام بعينه، على أن هذا الحرام الذي أخذه السلطان من الرعية على غير وجهه، قد صار إرجاعه إلى مالكه مأيوسًا، وصرفه في أهل العلم والفضل واقع في موقعه، ومطابق لمحلة، لأنهم مصرف للمظالم، بل أحسن مصارفها.
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل، قد لزمه لزومًا بينًا، أن يتناول هذا الطعن كل من اتصل بسلاطين الإسلام، منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن، فإنه لا بد في كل زمان من طعن طاعن، ولا بد أيضًا من صدور ما ينكر من أهل الولايات، وإن كثر منهم ما يعرف، ولهذا يقول الصادق المصدوق: " الخلافة بعدي ثلاثون عامًا ثم تكون ملكا عضوضًا " (¬2) كما تقدم. ولا بد للملك العضوض من أن يصدر عنه ما ينكر، ولو نادرًا، ولهذا لم تتفق الكلمة من جميع الناس، على براءة ملك من ملوك الأرض، من تلبسه بنوع من أنواع الجور، واتصافه بالعدل المطلق، الذي لم تشبه شائبة، ولا قدحت فيه قادحة: إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
¬_________
(¬1) تقدم آنفًا.
(¬2) تقدم تخريجه.
وانظر " فتح الباري " (8/ 77).
الصفحة 4680
6373