كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 9)

منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، على أن ذلك الرجل يضرب بالعصا على شريطة اشترطها السلطان، وهو أن يكون الذي يضربه ذلك العالم، فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون في مثل ذلك للفرجة، فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غير ملومين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك؟ ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا، عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضي عنه.
ويظن الجهول قد فسد الأمر ... وذاك الفساد عين الصلاح
ومن هذا القبيل، ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق؛ لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به [6ب] من تسعير بعض البضائع، فخرج السلطان، وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء، وقرب من السلطان وهو راكب، فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره، وأنه لا عذر من قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنه لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه، وقد ظهر عليه من الغضب، ما ظهر أثره ظهورًا بينًا، وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا: هو من عهدتي، لأن فيه حفظ دينك، وهو من عهدتي، فأطلقهم السلطان وسلموا.
فانظر؛ هذا العالم وبصره في إنكار المنكر، فإنه لو قال له ابتداء، إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل، لكان ذلك القول مما يوبقهم، لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان ليس هذا من عهدتك، لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة، تؤثر في النفس أعظم تأثير.

الصفحة 4682