كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 10)

بكرة لا يصح، لأنه إذا كان أبو بكرة شاهدا رابعا فليس عليه حد لكمال نصاب الشهادة، وإن لم يكن شاهدا رابعا فهو قاذف فحد المغيرة يترتب على صحة كون كلام أبي بكرة الأخير شهادة شاهد رابع، وكونه شهادة شاهد رابع يترتب على عدم حد أبي بكرة، فحد المغيرة مترتب على عدم حد أبي بكرة فكان مقتضى الحال أن يقال: لا تحد أبا بكرة بل حد المغيرة، لأنه قد كمل نصاب الشهادة [5أ]، أو إن لم تحد أبي بكرة فحد المغيرة؛ لأنه إذا لم يحد فهو شاهد رابع.
قال شيخنا - دامت إفادته -: أقول: لا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه، ويدفعون كثيرا من أقواله. انتهى.
أقول: المقالة المشار إليها هي قول الجلال بعد تسليم أن عليا لم يخالف في قصة المغيرة فغايته إجماع سكوتي (¬1)، ولا ينتهض السكوتي حجة (¬2) لأن عمر كان مهيبا منفذا لرأيه
¬_________
(¬1) الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلى به.
ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية.
ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق.
انظر: " حجية الإجماع " (ص 173)، " المسودة " (ص334 - 335)، " البحر المحيط " (4/ 494).
(¬2) وفيه مذاهب:
منها: أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي وقال: إنه آخر أقوال الشافعي وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه.
انظر: " المنخول " (318)، " المحصول " (4/ 153)، " البرهان " (1/ 499).
ومنها: أنه إجماع وحجة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول.
انظر مزيد تفصيل: " إرشاد الفحول " (ص 311)، " المنخول " (ص 318).
ومنها: أنه حجة وليس إجماعا قاله أبو حاتم وهو أحد الوجهين عند الشافعية.
انظر: " البحر المحيط " (4/ 393).
ومنها: أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه، وقال الرافعي: إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي.
انظر: " اللمع " (ص 49)، " البحر المحيط " (4/ 494).
ومنها: أنه إجماع إن كان فتيا لا حكم وبه قال ابن أبي هريرة وحكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي
" الإحكام " للآمدي (1/ 312 - 313) " المحصول " (4/ 157).
ومنها: أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم لا إن كان صادرا عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي " البحر المحيط " (4/ 500).
ومنها: أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعا وإلا فهو حجة .... " البحر المحيط " (4/ 500).
ومنها: إن كان الساكتون أقل كان إجماعا وإلا فلا قاله أبو بكر الرازي.
" البحر المحيط " (4/ 501).
ومنها: إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا وإلا فلا، قال الماوردي في " الحاوي " والروياني في " البحر ": إن كان في عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا أو حكم به فأمسك الباقون فهذان ضربان:
أحدهما: مما يفوت استدراكه كإراقة دم أو استباحة فرج فيكون إجماعا لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار المنكر.
وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا:
أحدهما: يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد.
والثاني: لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح.
ومنها: أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعا وبه قال إمام الحرمين
البحر المحيط (4/ 501).
ومنها: أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول
" المستصفى " (2/ 365).
ومنها ما يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره.
النظر: " البحر المحيط " (4/ 504)، " البرهان " (1/ 715 - 716).
* وخلاصة هذه الأقوال أنه إجماع وحجة، وانظر قول المذهب الثاني وهو الراجح والله أعلم.

الصفحة 4798