كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

لا يكون لإخوة النسب [2ب]، فيجهد كل واحد منهما في تحصيل نفع أخيه بما لا يبلغ إليه الشقيق في النسب، ومن ذلك المواساة من كل واحد منهما للآخر بما تملكه يده، والتعاضد في تحصيل مواد العيش.
وقد يتناوبان في أمور الدين والدنيا فيسعى أحدهما في تحصيل علم الشرع يوما، والأخر في تحصيل أمور المعاش يوما، كما ثبت في الصحيح (¬1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب هو وأخوه الأنصاري في الذهاب إلى حضرة النبوة يوما فيوم، فيأتي من نزل منهما الحضرة المصطفوية بما حدث فيها من الأخبار والشرائع، ويقوم الآخر في ذلك اليوم بما يحتاجان إليه من أمور الدنيا، ومن أعظم الفوائد وأجل المقاصد أنه يحصل بهذه المؤاخاة المودة الخالصة، والتحاب الصحيح، وقد ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة" (¬2) فلو لم يكن من فوائد هذه الأخوة إلا هذه الفائدة فكيف ولها من فوائد الدين والدنيا ما لا يخفى على عاقل! وقد أوضحنا بعضه.
وأما قول السائل - عافاه الله -: وما الفرق بين الإخاء والحلف (¬3)؟
¬_________
(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (89) معلقا وأطرافه: [2468، 4913، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263] من حديث عبد الله بن عباس، عن عمر قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ... ".
(¬2) أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (2390) من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: وهو حديث صحيح.
انظر الرسالة الآتية رقم (175).
(¬3) قال ابن الأثير في "النهاية" (1/ 424 - 425) أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" أخرجه البخاري رقم (6083) من حديث أنس بن مالك. وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الرحم كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - أخرجه مسلم في صحيحه رقم (206/ 2530) من حديث جبير بن مطعم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" - يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق وبذلك يجتمع الحديثان وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخا، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رضي الله عنه من المطيبين، وكان عمر رضي الله عنه من الأحلاف والأحلاف ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم سموا بذلك لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجامة والرفادة واللواء والسقاية، وأبت عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعتها لأحلافهم وهم أسد، وزهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها حلفا آخر مؤكدا فسموا الأحلاف لذلك.
وقد أخرج أحمد في "المسند" (1/ 190، 193) وأبو يعلى في مسنده رقم (846) وابن حبان في صحيحه رقم (4373) والحاكم (2/ 219 - 220) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 366) وفي "الدلائل" (2/ 37 - 38) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (567) عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني أنكثه". وهو حديث صحيح.
قال القرطبي في "المفهم" (6/ 482 - 483): قوله: "لا حلف في الإسلام" أي: لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية يتحالفون، وذلك أن المتحالفين: كانا يتناصران في كل شيء، فيمنع الرجل حليفه، وإن كان ظالما، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن، فيمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والبغي، والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف بالحدود، وبين الأحكام أبطل ما كانت الجاهلية عليه ممن ذلك، وبقي التعاقد والتحالف على نصرة الحق، والقيام به، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر عليه من المكلفين.

الصفحة 5285