كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

النسب، وليس في المؤاخاة الإسلامية الكائنة عن أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلا مجرد التعاضد والتعاون على أمور الدين والدنيا، وهذه سنة نبوية ثابتة لم تنسخ، ولا ورد ما يرفعها بخلاف التحالف، فإنه قد نسخ (¬1) وارتفع حكمه في هذه الشريعة، فلا توارث
¬_________
(¬1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2292) وطرفاه (4580، 6747) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" [النساء:33]. قال: ورثة. "وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" قال: كان المهاجرون لما قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون رحمه، للأخوة التي آخى بينهم، فلما نزلت " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ" نسخت ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ" إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له.
قال ابن كثير في تفسيره (4/ 95) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:72].
ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين، خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله، وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار، وهم: المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولى ببعض أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ولهذا آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث.
قال الحافظ في" الفتح " (4/ 474): قال الخطابي: قال ابن عيينة حالف بينهم أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله.
قال الحافظ في: "الفتح" (4/ 474): واختلف الصحابة في الحد الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والإسلام.
فقال ابن عباس: ما كان قبل نزول الآية المذكورة جاهلي وما بعدها إسلامي وعن علي ما كان قبل " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ " جاهلي.
وعن عثمان: كل حلف كان قبل الهجرة جاهلي، وما بعدها إسلامي.
وعن عمر: كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود وكل حلف بعدها منقوض، ثم قال الحافظ: وأظن قول عمر أقواها ويمكن الجمع بأن المذكورات في رواية غيره ما يدل على تأكد حلف الجاهلية والذي في حديث عمر ما يدل على نسخ ذلك.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (16/ 82): المنفي حلف التوارث وما يمنع منه الشرع، وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه.
قال القرطبي في "المفهم" (6/ 479): المؤاخاة: مفاعلة من الأخوة ومعناها: أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة. والتوارث حتى يصيرا كالأخوين نسبا، وقد يسمى ذلك حلفا ... وكان ذلك أمرا معروفا في الجاهلية معمولا به عندهم ولم يكونوا يسمونه إلا حلفا، ولما جاء الإسلام عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به، وورث به على ما حكاه أهل السير.
ثم قال (6/ 483): وسمى ذلك أخوة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكن الإسلام، واطمأنت القلوب، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام.

الصفحة 5287