كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

ووجه سقوطه أنه وإن كان محصلا لغرض دنيوي لما فيه، رفعه المحل، ونباهة القدر، ونبالة الذكر لكنه عند التحقيق لأسباب هي غير ذلك الشخص، فإنه لو فتش عن قلوب المحبين له في الظاهر لوجدها في الحقيقة محبة لماله أو جماله، أو سائر الأغراض الدنيوية المتعلقة به، يزول بزوالها مع بقاء ذاته، فإنه إذا كان محبوبا لأجل إنفاقه على إخوانه ومعارفه زالت تلك المحبة [5أ] بمجرد ذلك الإنفاق (¬1)، وانقلبت المحبة عداوة،
¬_________
(¬1) قال الحريري: "تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرغبة والرهبة".
"الإحياء" (2/ 179).
* قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم".
لذلك عليم أن تحسن اختيار - الأخ - لأن ذلك أصبح جوهرة مفقودة فهنيئا لمن كان له أخ في الله.
* قال علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: "يا بني! إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤونة مالك. وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إن قلت صدق قولك، وإن حاولتما أمرا أمرك وإن تنازعتما آثرك.
وللمؤمن حق على أخيه المؤمن:
1 - ): الحق في المال: قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حقت محبتي للمتباذلين في". تقدم تخريجه. والمواساة بالمال على ثلاث مراتب:
1 - أن تقوم بحاجته من فضلة مالك فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حقه.
2 - أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال.
رأى بعض الحكماء رجلين يصطحبان لا يفترقان، فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. فقال: ما بال أحدهما فقير والآخر غني؟.
3 - وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين.
2 - ): وعليه إطعام الإخوان وكسوتهم:
قال أبو سليمان الداراني: " لو أن الدنيا كلها لي في لقمة، ثم جاءني أخ لأحببت أن أضعها في فمه".
"كتاب الإخوان" (ص235).
وقال: إني لألقم اللقمة أخا من أخواني فأجد طعمها في حلقي".
"الإحياء" (2/ 190).
3 - ): أن يعينه بالنفس والبدن في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة.
قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي، فإذا لم يقضها فكبر عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام:36].
"كتاب الإخوان" (ص240 - 248).
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
أخرجه البخاري رقم (2442) ومسلم رقم (2580) وأبو داود رقم (4893) والترمذي رقم (1426) من حديث ابن عمر.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا".
أخرجه البخاري رقم (6064) ومسلم رقم (2563،2564) وأبو داود رقم (4917) والترمذي رقم (1988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". تقدم تخريجه.
4 - ): أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله التي يحب أن يتفقده فيها منها:
1 - أن يخبر بمحبته له.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه".
2 - أن تدعوه بأحب الأسماء إليه في غيبته وحضوره.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولا، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه.
3 - أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده.
4 - أن تشكره على صنيعه في حقك.
5 - عليك الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض عرضه بكلام صريح أو تعريض.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".
أخرجه الترمذي رقم (1931) من حديث أبي الدرداء وهو حديث صحيح.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2564).
6 - التعليم والنصيحة:
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" تقدم تخريجه.
قال الشافعي رحمه الله: "من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه ... ".
5 - ): من حقه عليك: أن تعفو عن زلاته وهفواته:
قال الأحنف: حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثا: ظلم الغضب وظلم الدالة، وظلم الهفوة وقد قليل:
واغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
6): أن تدعو له في حياته وبعد مماته:
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذ دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثل".
وقال أبو الدرداء: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسميهم بأسمائهم.
"الإحياء" (2/ 202).
قال القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد بن حنبل: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحرا.
انظر "سير أعلام النبلاء" (11/ 127).
وروى الخطيب البغدادي في "تاريخه" (9/ 361) في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون أحد القراء المشهورين قال: "كان لأبي حمدون صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو لهم كل ليلة، فتركهم ليلة فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون: لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة، قال: فقعد فأسرج وأخذ الصحيفة فدعى لواحد واحد حتى فرغ
7 - ): من حقه عليك الوفاء والإخلاص:
1 - الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه.
2 - ومن الوفاء مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه.
3 - أن لا يصادق عدو صديقه.
4 - أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه.
قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
5 - ومن الوفاء أن تجزع من المفارقة:
وقد قيل:
وجدت مصيبات الزمان جميعها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
قال الغزالي في "الإحياء" (2/ 204): "اعلم أن ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل الوفاء لله المخالفة، فقد كان الشافعي رحمه الله آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول ما يقيمني بمصر غيره، فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله فقال:
مرض الحبيب فعدته ... فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني ... فبرئت من نظري إليه
6 - ومن الوفاء أن تحسن الظن بأخيك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" تقدم تخريجه.
8 - التخفيف وترك التكلف والتكليف:
قال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يزور أحدهما أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه، وقالوا: من سقطت كلفته دامت ألفته ومن خفت مؤنته دامت مودته.

الصفحة 5305