كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

وكذلك لو ذهب جمال من كان محبوبا لأجل جماله، أو انتقض من كان محبوبا لأجل انبساط أخلاقه، فلا ريب أن هذه المحبة من الأغراض الساقطة، وهمه من أتعب نفسه لأجلها، واقتحم في تحصيلها مهالك الرياء أسقط وأسقط فلم لذي الهمة الرفيعة والقدر السامي إلا اطراح الطلب لذلك، والاشتغال بالأغراض الأخروية، فيجعل جهاده وصدقته وتعليمه وحسن خلقه، وسائل خصاله الخيرية لله - جل جلاله -، ولا يبالي بمن أوصل الخير إليه أشكر أم كفر، صدق أم غدر، مع أنه إذا أخلص النية كان التأثير في النفوس أوقع، وحصول المنافع الدنيوية لمن لم يقصدها أسرع، فإن ستر المرائي مبتوك، وحبل طالب الدنيا بأعمال الدين مبتوك، بخلاف المخلص فإنه أخص بأعماله من أقواله وأفعاله جناب من تعد أزمة الأمور، ومن هو المصرف لقلوب عباده كيف يشاء، ومن نظر في سر الإخلاص علم أن من لم يخلص لم يؤت إلا من قبل نفسه، والفطرة التي تهدي إلى الخير هي هلكة [5ب] العقل، وبها دارت عليه دوامة التوفيق (¬1).
¬_________
(¬1) كلمات لا بد أن نتأملها:
1 - قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
2 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه مسلم رقم (3638) وأبو داود رقم (3834) وهو حديث صحيح.
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3336) من حديث عائشة رضي الله عنها.
3 - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه أبو داود رقم (4833) والترمذي رقم (2379) وقال: هذا حديث حسن غريب.
وهو حديث حسن.
5 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله قال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم".
أخرجه البخاري رقم (3688، 6167) ومسلم رقم (2639).
وعن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المرء مع من أحب".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6170) ومسلم رقم (2640).
6 - عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي".
أخرجه أبو داود رقم (4832) والترمذي رقم (2395) وأحمد (3/ 38) وابن حبان رقم (554). وهو حديث حسن.
7 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
أخرجه البخاري رقم (660) ومسلم رقم (1031) وأحمد (2/ 439) والترمذي رقم (2391) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 282): هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال وأعمها وأصحها إن شاء الله، وحسبك به فضلا لأن العلم محيط بأن كل من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف.
ومن المعاني المشتركة بين الفئات السبعة:
1 - ): الرغبة والرهبة من الله وفي الله.
2 - ): مراقبة الله والإخفاء عن الناس.
3 - ): ارتباط هذه الأجناس بعضها وتأثير بعضها في بعض.
4 - ): اشتراكهم في مخالفة هواهم.
فما عليك إلا أن تعمل جاهدا على أن تكون منهم ومعهم لتأمن هول الموقف وتحشر معهم فأعد العدة للفردوس الأعلى ... والله خير معين.

الصفحة 5309