كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

يرفع فائدة ذلك، ويقتضي عدم النفع به؟ ومعلوم أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أعلم بربه، وبقضائه وقدره، وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته. فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئا ولا ينفع نفعا لم يفعله، ولا أرشد الناس إليه وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي يتنزه عنه كل عاقل فضلا عن خير البشر وسيد ولد آدم.
ثم يقال لهم: إذا كان القضاء واقعا لا محالة، وإنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستغاثة، فكيف لم يتأدب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مع ربه! فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله - سبحانه - من سوء القضاء كما عرفناك، وقال: "وقني شر ما قضيت" (¬1). فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا! أو على أي محمل يحملونه!.
ثم ليت شعري علام يحملون أمره - سبحانه وتعالى - لعباده بدعائه بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2) ثم عقب ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3)
¬_________
(¬1) تقدم تخريجه.
(¬2) [غافر: 60].
قال الشيخ أبو القاسم القشيري في "شرح الأسماء الحسنى" ما ملخصه: جاء الدعاء في القرآن على وجوه منها:
أ - العبادة: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس:106].
ب - الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23].
ج - السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
د - القول: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10].
هـ - النداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإسراء:52].
و- الثناء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110].
قال الحافظ في "الفتح" (11/ 94): هذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض وقالت طائفة الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء. وأجابوا عن الآية بأن آخرها دل على أن المراد بالدعاء العبادة لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدعاء هو العبادة" - تقدم تخريجه.
وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادات وقد تواترت الآثار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالترغيب في الدعاء والحث عليه كحديث أبي هريرة رفعه: "ليس شئ أكرم على الله من الدعاء" أخرجه الترمذي في "السنن" رقم (3370) وابن حبان في صحيحه رقم (870) والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (712) والطيالسي (1/ 253) وأحمد (2/ 362) وابن ماجه رقم (3828) - وهو حديث حسن -.
ثم قال (11/ 95): أما قوله بعد ذلك: {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارا ومن فعل ذلك فقد كفر، وأما من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة في الحث عليه.
قلت: - الحافظ ابن حجر - وقد دلت الآية الآتية قريبا من السورة المذكورة أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وهو قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال الطيي: معنى حديث النعمان أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي، إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار ووضع عبادتي موضع دعائي وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان.
وحكى القشيري في "الرسالة" (ص265): الخلاف في المسألة فقال: اختلف في أي الأمرين أولى: الدعاء أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار وقيل السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل.
قلت: وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قدر له فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل حاصل. وإن كان على خلافه فهو معاندة. والجواب عن الأول أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار. وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة.
وفائدة الدعاء: تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها.
(¬3) [غافر:60].

الصفحة 5334