كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

هذه الدلالة، ويفيد هذه الفائدة، بل يرد في غالب القرب التي هي أركان الإسلام، وما هو من الواجبات المؤكدة ما يفيد هذه الفائدة، فإن الله - سبحانه - قد جعل جزاء الطاعة محدودا بحدود سماها وبينها كقوله في أجر الحسنة عشر (¬1) أمثالها إلى سبعمائة
¬_________
(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
قال القرطبي في "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (1/ 141): فيجب على كل مسلم أن يعلم أن الصبور على الإطلاق إنما هو الله عز وجل. ويجب على العبد أن يصبر ويتصبر ويصابر وقد أمره الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] فأمر سبحانه بالصبر على ما يخصه وعلى مصابرة الأعداء والمداومة على الصبر حتى يتخذه إلفا وصاحبا وخلا ومؤانسا وقد أخبر أنه يحب الصابرين وأنه معهم. والصابرون جمع صابر.
والصابر أعلى مقاما من المتصبر. مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: " اتقي الله واصبري" الحديث وفيه فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" - أخرجه البخاري رقم (1283 و7154) ومسلم رقم (15/ 926) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا - وقل ما يكون الصبر عند الصدمة الأولى من المتصبر، وإنما يكون من الصابر أو الصبار أو الصبور، هي مقامات بعضها فوق بعض، فالمتصبر المتكلف ليكتسب الصبر المرة بعد المرة وذلك بحسب مغالبة الهوى، والصابر هو الدائم على قهر هواه وملكه وشهواته.
فقل ما يتكلف الصبر لأنه قهر سلطان الهوى، وملك النفس بزمام التقى، والصبار هو المتمرن في الصبر لتكرره مع الاختيار منه، حتى لا يفكر فيما يترقبه من ذلك، وفيهم قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157].
قال الأقليشي: واتصاف العبد بالصبر عن الميل إلى دواعي الهوى ليس من صفات الملائكة. إذ هو حبس النفس على الهوى الداعي إلى العصيان، وبهذا فضل العلماء الإنسان على الملك. إذ الملك خلق مبرأ عن الهوى والشهوة فثبت على الطاعة والإنسان سلطت عليه دواعي الهوى، فلما قمعها الصبر وثبت على طاعة الله كان أشرف من الملك، وأعلى. الحديث.
قال بعض العلماء: ذكر الله الصبر في القرآن في خمسة وسبعين موضعا فلا بد من الصبر عاجلا أو آجلا فمن لم يصبر كما أمره الله عز وجل في الدنيا حيث ينفعه صبره صبر لا محالة في الآخرة حيث لا يجدي عليه الصبر شيئا.
قال تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16].
ويقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
إن قوما صبروا في الدنيا فلم ينفعهم بل ضرهم ذلك قال الكافرون: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا} [الفرقان: 42].
إنما الصبر الحق ما وافق الحق وخالف الهوى، ووافق طاعة المولى. ونقول ألهمنا الله الصبر ورزقناه بمنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر". تقدم خريجه.

الصفحة 5382