كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 2)

وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها، لأنه ليس لهم حواسي مثلنا يدركون به ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت لا يدرك اللذات الجسمانية، فلا يريدها كما لا يريد الملك عظيم الملك أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق.
وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك في حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا، كما نفضل نحيط اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.
وإذا تأملت أمرها بين اللذتين نجد خساسة اللذة الواحدة، ورفقه الثانية، ولو في هذا العالم. وذلك أنا [7] نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة، أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست بلذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يجتنب أعظم ما يكون من اللذات الجمسمانية خشية أن يناله في ذلك جزاء، أو خشية من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقبل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثلما تعقل الأجرام العلوية أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!.
وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ مما تعقل من الباري كما تستلذ سائر طبقات الملائكة مما عقلوا من وجوده- سبحانه- فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى (¬1)،
¬_________
(¬1) والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سطعا، وبصرا، وشما وذوقا ولمسا، للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال: لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى. كما قي الحديث الصحيح: " فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه أخرجه مسلم رقم (297) والترمذي رقم (2552) وابن ماجه رقم (187) وهو حديث صحيح. وهو نمرة معرفته وعبادته في الدنيا، فأطيب ما في الدنيا معرفته، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه ولهذا كان التجلى يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا. "
مجموع فتاوى " لابن تيمية (14/ 163).".

الصفحة 577