كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

هو أن الأدلة الواردة في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كيف يصلون عليه وردت كلها بلفظ: اللهم صل على محمد، فزادوا لفظ سيدنا وقالوا: اللهم صل على سيدنا محمد، وقالوا: هذه الصلاة مشتملة على الأدب الحسن، والأدلة دلت على عدم ثبوت هذه الزيادة، فأيهما أفضل الإتيان بها تأدبا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أو تركها امتثالا لأوامره التي لم تشتمل على هذا اللفظ؟
قلت: وهذا المثال أيضًا ليس مما يصدق عليه معنى ذلك السؤال، ويندرج في معنى ذلك الإشكال، لأنه قد صح عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صحة وقع الإجماع عليها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم " (¬1) فدخل في ذلك جميع الأنبياء الصالحين، وكل المؤمنين والمسلمين على اختلاف أنواعهم، وتباين طبقاتهم، فهو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - سيد كل فرد من أفراد العباد كائنا من كان، وعلى كل إنسان أن يعتقد ذلك، ويدين به، ولكنه لم يرد في الصلوات المنصوصات هذا اللفظ، بل وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الاقتصار على ذلك المقدار، ولو كان لذلك مدخل في الصلوات لعلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - الناس كما علمهم سائر ألفاظ الصلوات.
ولا يصح أن يقال: إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ترك التصريح بهذا اللفظ تواضعا، أو نحو ذلك، فإن ما شرعه الله لعباده لا يترك بمجرد ذلك، ولا يصح نسبته إليه، ولو كان للتواضع ونحوه مدخل في التشريع لم يقل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: " أنا سيد ولد آدم " فإن هذا الحديث قد شمل أمته، وشمل غيرهم [2ب] من سائر الملل المختلفة، والطوائف المتباينة، منذ عصر أبينا آدم، - عليه السلام - إلى هذه الغاية، وما وقع منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من النهي عن تفضيله على موسى - عليه السلام (¬2) - ذاكرا
¬_________
(¬1) تقدم تخريجه في الرسالة رقم (183).
(¬2) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2411) ومسلم في صحيحه رقم (160/ 2373) عن أبي هريرة رضي الله عنه: استب رجلان رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدا عن العالمين فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي فذهب اليهودي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم. فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة. فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري، أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله ".

الصفحة 5814