كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرت كان هذا المثال الذي مثلوا به صحيحاً، لأنه لم يدل دليل على أن مثل ذلك يقال في الصلاة، فليس فيه إلا مجرد الأدب الذي زعموه.
قلت: إذا قد علمت أن مثل هذا من المعارضة بين الامتثال الذي لا يكون إلا بما دل عليه دليل، وبين مجرد الأدب المخالف لما دل عليه دليل.
فقد انقطع الإشكال بعروقه، واجتث من أصله، ولم يبق في المقام ما يقتضي دوران مثل هذا السؤال بين حملة العلم، والتكلم به في مجامعهم كما عرفت، وإنما عرفناك فيما سبق أنه مثال غير صحيح في المقام لما قدمنا من قيام الدليل عليه، وإن كان في غير محل النزاع.
فإن قلت: لو قدرنا أنه ثبت في رواية صحيحة، وحديث يصلح للحجية في تعليمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - للأمة لألفاظ الصلاة عليه لفظ سيدنا (¬1)!
¬_________
(¬1) قال القاسمي في " الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين " (70 - 71): للعلماء اختلاف في زيادة لفظ (سيدنا) في الصلاة على النبي، وقد وقفت على سؤال رفع لأبي الفضل الحافظ ابن حجر في ذلك؛ فأجاب عنه، وأجاد وهاكه بنصه: " سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها: هل يشترط فيها أن يصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة بأن يقول مثلاً: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى سيد الخلق أو سيد ولد آدم أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد، وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عدم الإتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب - رضي الله عنه -: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما لم يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلى الله على عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون. وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه " سبحان الله عدد خلقه " (أ).
(أ): أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2426) والترمذي رقم (3555) وابن ماجه رقم (3808) عن ابن عباس عن جويرية، أن النبي خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال: " ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ".
وانظر " الشفاء " للقاضي عياض (2/ 640 - 648).

الصفحة 5819