كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 11)

وقال في النهاية (¬1) المبذر المسرف في النفقة.
وقال في القاموس (¬2) وبذره تبذيرا أخربه وفرقه إسرافا. انتهى.
وقد عرفت أن معنى التبذير كمعنى الإسراف في اللغة والشرع، والعجب أن صاحب النهاية، وصاحب القاموس ذكرا في مادة الإسراف أن منه الإنفاق في غير الطاعة، ولم يقيدا التبذير بمثل، وما ذلك إلا لكون ذكر الإنفاق في غير طاعة في معنى السرف من خلط المعاني اللغوية بالمعاني الشرعية.
فإن قلت: تقد كانت العرب تتمادح بإخراج المال دفعة واحدة، والتكرم بما يجده الإنسان، وإن لم يجد بعد ما يسد رمقه فضلا عن أن يجد غيره، كالواقعات من العرب المشهورين بالكرم مثل: حاتم، وكعب بن مامه، وأمثالهم. قلت: لا شك في تمادحهم بذلك، مع أنهم يسمونه سرفا وتبذيرا، وهم إذ ذاك على جاهليتهم لم يعلموا بقبح ذلك في الشرع، والمقصود الذي تقوم به الحجة هنا أنهم يسمونه سرفا، فوجب حمل الأدلة الواردة في النهي عن السرف على هذا المعنى العربي، ولا ينافي ذلك وقوع التمادح به، فإنه لم يكن البحث في كون السرف مما يتمادح به من لم يتقيد بالشرع، بل في صدق اسم السرف عليه، والرجوع إلى بيان حكمه شرعا.
ومعلوم أن العرب قد تمدح من جاد بكل ماله على جهة السرف مدحا زائدا على من جاد ببعضه، لأن الكرم محبب إلى النفوس، لا سيما النفوس العربية، بل قد تجد أهل الإسلام يغفلون عن قبح ذلك شرعا، ويبالغون في مدح من أسرف بإخراج ماله، وبذر به لتلك العلة، وبسبب تلك الطبيعة كما قال الشاعر:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد
بل قد يبالغون في الثناء على من جاد بنفسه، ولو جاد بها في باطل كما في قول
¬_________
(¬1) (1/ 110).
(¬2) (ص444).

الصفحة 5826