كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 12)

إذا تقرر هذا فلم يبق هاهنا إلا أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ.
وقد تقرر في علم الكلام أن إثباتَ الواجباتِ على الله تعالى هو مذهبٌ ذهبتْ إليه المعتزلةُ دون مَنْ عَدَاهُم (¬1)، على أنهم حصروا الواجباتِ على الله سبحانه في ثمانٍ مبيَّنةٍ
¬_________
(¬1) وذلك أن المعتزلة بناء على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين أوجبوا على الله تعالى أمورًا وحرموا عليه أخرى بمحض عقولهم قياسًا لله على العبيد وبئس القياس.
فما أوجبوا عليه، رعاية الصلاح للعباد، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وسموا ذلك عدلاً.
وخالفهم في مذهبهم هذا جماهير المسلمين فقالوا: لا يجب على الله شيء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد.
فقد قال الحافظ في (الفتح) (11/ 490): ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم ـ واستدل به على أنّه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلافًا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله، ثم يختم له بالكفر ـ والعياذ بالله ـ فيموت على ذلك. فيدخل النار فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره.
قال ابن القيم في (مدارج السالكين) (2/ 338): فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق والناس فيه ثلاث فرق: ?
فرقة رأت: أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقًا، فقالت: لا يجب على الله شيئًا البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. ?
وفرقة رأت: أنّه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله. ?
والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحًا، ولا يدخل أحد عمله الجنة أبدًا والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقًّا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسى ولعل، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه عسى من الله واجب. ?
ويقول ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) (2/ 785 ـ 786): لا ريب أن الله جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وفي الصحيحين ـ البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) ـ أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم» فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين: ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا» ـ تقدم تخريجه ـ.
وأمّا الإيجابُ عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا. ولهذا كان من قال على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنَّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليه الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح ... )).

الصفحة 6194