كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 12)

[جواب القاضي الشوكاني على الرسالة السابقة]
الحمد لله وحدَه. لما وقفَ الحقير على هذا التحرير ظهر له أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ ... } إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} استئنافٌ (¬1) تقدير السؤالِ، كأنه لما سمعَ السامعُ ذِكْرَ حزبِ الإيمان وحزب الكفرانِ مع ذكر كونِ طائفةِ المؤمنينَ فوقَ طائفةِ الكافرين تشوَّق إلى استيضاحِ الأمرِ، ومعرفةِ جليِّة الحال عن شأن الحزبينِ، فكأنه قال: ما ذاك تكونُ حالُ طائفةِ الكافرينَ، وطائفة المؤمنين، بعد أن أخبر الله ـ عز وجل ـ أنه جاعل إحدى الطائفتين فوق الأخرى، فإن هذا الجعلَ المجملَ لا ريبَ أنه أعظمُ باعثٍ على أخفاء [3] السؤال عن أسبابه. فقال ـ جل جلاله ـ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}. {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يلزمُ انحصارُ الجعل المجمل في هذا البيان، بل يمكن أن يكون بأسباب كثيرةٍ وقعَ البيان لبعضها، وأهمُّها.
فالحاصلُ أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} استئناف بيانيٌّ جوابٌ لسؤالٍ منشؤُه قولُه تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وما رجَّحه جار الله ـ رحمه الله ـ لا ريب أن فيه إشكالاً، لأن الأفعال إذا انضم إليها ذِكْرُ الأزمنة أو الأمكنة تقيَّدتْ بالمذكور. تقول ضَرَبْتُه يوم الجمعةِ، وفي الدار، فكان الضربُ مطلقًا. فلما قيل يومَ الجمعة، وفي الدار لم يبقَ له صدقٌ على ضربٍ واقعٍ في يوم السبتِ مثلاً، وفي المسجد، وهكذا سائرُ القيودِ والمتعلقاتِ.
إذا تقرر هذا فقولُه تعالى: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} مفيدٌ بكونِه بعد المرجعِ إلى الله، كما تُشْعِرُ به (الفاءُ) الدالةُ على الترتيبِ والتعقيبِ. (¬2)
¬_________
(¬1) الفاء: استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون تفسيرًا للحكم بين الفريقين.
انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه) (1/ 521) محيي الدين الدرويش.
(¬2) أي أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن. وهو معنى قولهم إنّها تدل على الترتيب بلا مهملة أي: في عقبه ولهذا قال المحققون منهم: إن معناها التفرق على مواصلة. وهذه العبارة تحكي عن الزجاج وأخذها ابن جني في (لمعه) ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو. ومعنى على مواصلة: أي: أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلاً له. انظر: (البحر المحيط) (2/ 261 ـ 262).

الصفحة 6215