كتاب الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (اسم الجزء: 12)

تعلُّقَ التصرفِ والتدبيرِ، غيرُ متصلٍ به. وعلى هذا اتفق أهل هذا الفنِّ ومن وافَقَهم من الحكماء، ومن أهل علم اللطيفِ المجعولِ مقدمةً لكثير من العلوم.
فتقرَّر بهذا أنه لا يصح أن يكون أصلاً في ما تركبت منه الذات، وإن أرادوا الثالث: فيقال لهم: ما الذات التي كان هذا الذاتي جزءًا مفهومًا؟ فإنا قد علمنا اتفاق أهل المعقولِ على انحصار الموجوداتِ الحادثة في الجواهر والأعراضِ، وعلمنا اتفاقَهم على أن الجواهر هو ماهيةٌ ما إذا وجدت كانت لا في موضوع، وعلى أن العَرَضَ هو ماهية ما إذا وجدت كانت في موضوع فما هي هذه الذات التي جعلتْه الذاتي هو ما كان جزءًا لمفهومِها؟ فإن قالوا: إن علمهم هذا هو إنما هو في الكلام على الكليَّاتِ [1أ]، ولا يتكلمون على الأمور المتشخصة بوجه من الوجوه.
قلنا: فَمِنْ أين عرفتم أن بعض المتعلِّقاتِ بذلك الكلي ذاتيِ له، وبعضها عَرَضيٌّ له؟ وما الذي استفدتم منه هذا حتى جعلتم النطق ذاتيًّا لتلك الماهية الكلية دون ما يشارُكُه في كونه في كونه ماهيةً ما إذا وجدت كانت في موضوعٍ؟ مع أن هذا الحدَّ الذي اتفقتم عليه في كونه مفهومَ العرضِ يصدقُ على النطق الذي جعلتموه ذاتيًّا كما يصدق على الخاصَّة والعَرَضِ العامِّ.
وبهذا يتقرر لك أنَّ جَعْلَ بعض المتعلقاتِ ذاتيًّا وبعضِها عرضيًّا، وإدخالَ النطقِ في الذاتياتِ مجرَّدُ دعوى لم يقم عليها برهانٌ، (¬1) مع كونهم زاعمينَ أن هذا العلم هو الذي
¬_________
(¬1) قال ابن تيمية في (الرد على المنطقيين) (ص62 ـ 63): الوجه السادس التفريق بين (الذاتي) و (العرضي) باطل: أن يقال: المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام وهو (الحقيقي) وهو المؤلف من الجنس والفصل من (الذاتيات) المشتركة والمميزة دون (العرضيات) التي هي (العرض العام) و (الخاصة) والمثال المشهور عندهم أن الذاتي المميز لـ (الإنسان) الذي هو الفصل هو (الناطق) والخاصة هي (الضاحك). فنقول: مبني هذا الكلام على الفرق بين (الذاتي) و (العرضي). وهم يقولون: المحمول الذاتي داخل في حقيقة الموضوع ـ أي: الوصف الذاتي داخل في حقيقة الموصوف بخلاف المحمول العرضي، فإنّه خارج عن حقيقته. ويقولون: (الذاتي) هو الذي تتوقف الحقيقة عليه بخلاف العرضي. ويقسمون العرضي إلى (لازم) و (عارض) واللازم إلى (لازم لوجود الماهية دون حقيقتها، كالظل للفرس، والموت للحيوان وإلى لازم للماهية كالزوجية والفردية للأربعة والثلاثة).
والفرق بين لازم الماهية ولازم وجودها أن لازم وجودها يمكن أن تعقل الماهية موجودة دونه بخلاف لازم الماهية، لا يمكن أن يعقل موجودًا دونه.
وجعلوا له خاصة ثانية وهو أن الذاتي ما كان معلولاً للماهية بخلاف اللازم، ثم قالوا: من اللوازم ما يكون معلولاً للماهية بغير وسط، وقد يقولون ما كان ثابتًا لها بواسطة، وقالوا أيضًا: الذاتي ما يكون سابقًا للماهية في الذهن والخارج بخلاف اللازم فإنه ما يكون ثابتًا.
فذكروا هذه الفروق الثلاثة، وطعن محققوهم في كل واحد من هذه الفروق الثلاثة وبينوا أنّه لا يحصل به الفرق بين (الذاتي) وغيره. ?
قال ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) (3/ 321): بل الذي عليه نظَّار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى: لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته، وإلى عارضة لم يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته.
وهذه اللازمة منها: ما هو لازم للشخص دون نوعه وجنسه، ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه.
وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود، وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم.
بل طائفة نظار الإسلام قسموا اللازم إلى: ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية: ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه، وعنوا بالمعنوي: ما يمكن تصور الذات بدون تصوره، وإن كان لازمًا للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينًا يقوم بالذات.
فالأول: عندهم مثل كون الرب قائمًا بنفسه وموجودًا.
والثاني: عندهم مثل كونه حيًّا وعليمًا وقديرًا ...

الصفحة 6366