كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (اسم الجزء: 20)
.
__________
معصوم من الذنوب أى لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل مانع نفسه عن الشهوات، وقيل ليست له شهوة فى النساء، والمقصود أنه مدح ليحي بأنه حصور ليس انه لا يأتى للنساء، بل معناه كما قاله هو وغيره انه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، وقوله تعالى (ونبيا من الصالحين) هذه بشارة ثانية بنبوة يحي بعد البشارة بولادته، وهى أعلى من الأولى كقوله تعالى لام موسى أنا راّدوه أليك وجاعلوه من المرسلين، فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر (قال رب انى يكون لى غلام وقد بلغنى الكبر وامرأتى عاقر، قيل كان عمره اثنين وتسعين سنة، وقيل مائة وعشرين وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة كذا فى الكامل لابن الأثير (قال) أى الملك (كذلك الله يفعل ما يشاء) أى هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ ولا يتعاظمه أمر (قال رب اجعل لى آية) أى علامة استدل بها على وقت حمل امرأتى فأزيد فى العبادة شكرا لك (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) أى اشارة لا تستطيع النطق مع انك سوئ صحيح كما فى قوله ثلاث ليال سويا، ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير فى هذه الحال فقال تعالى (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشىّ والأبكار) وقال تعالى فى سورة مريم (فخرج على قومه من المحراب) أى الذى بشر فيه بالولد (فأوحى اليهم) أى أشار اليهم إشارة خفية سريعة (أن سبحوا بكرة وعشيا) أى موافقة له فيما أمر به فى هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله على ما اولاه: قوله عز وجل (يا يحي) قيل فيه حذف معناه وهبنا له يحي وقلنا له يا يحي (خذ الكتاب) يعنى التوراة (بقوة) يجد (وآتيناه الحكم) قال ابن عباس يعنى النبوة (صبيا) وهو ابن ثلاث سنين، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير، وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتى الحكم صبيا (وحنانا من لدنا) رحمة من عندنا (وزكاة) قال ابن عباس يعنى بالزكاة الطاعة والاخلاص، وقال قتادة هى العمل الصالح وهو قول الضحاك، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحتنا على العباد ليدعوهم الى طاعة ربهم ويعمل عملا صالحا فى اخلاص (وكان تقيا) أى مسلما ومخلصا مطيعا، وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا همّ بها (وبرّأ بوالديه) أى بارْاَ لطيفا بهما محسنا إليهما (ولم يكن جبارا عصيا) الجبار المتكبر، وقيل الجبار الذى يضرب ويقتل على الغضب والعصىّ العاصى (وسلام عليه) أى سلام له (يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الانسان فى هذه الأحوال يوم يولد فيخرج ما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يبعث حيا فيرى نفسه فى محشر لم ير مثله فخص يحي بالسلامة فى هذه المواطن (قال الحافظ ابن كثير فى تاريخه) روى ابن عساكر ان أبوى يحي خرجا فى تطلبه فوجداه عند بحيرة الأردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل. وقال ابن وهب عن مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد قال كان طعام يحي بن زكريا العشب وانه كان ليبكى من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه (وعن ابن شهاب) قال جلست يوما الى أبى إدريس الخولانى وهو يقص فقال ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما؟ فلما رأى الناس قد نظروا اليه قال ان يحي بن زكريا كان أطيب الناس طعاما، إنما كان يأكل مع الوحش كراهة ان يخالط الناس فى معايشهم، وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد قال فقد زكريا ابنه يحي ثلاثة أيام فخرج يلتمسه فى البرية فاذا هو قد احتقر قبرا وأقام فيه يبكى على نفسه، فقال يا بنى أنا أطلبك من ثلاثة أيام وانت فى قبر قد احتفر به قائم تبكي فيه،