كتاب فتاوى السبكي (اسم الجزء: 1)

الْعَاصِي، وَقِيلَ: إرَادَةُ صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ. فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، أَوْ إحْلَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ. وَقَدَّمَ الْغَضَبَ عَلَى الضَّلَالِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ مِنْ نَتِيجَةِ الضَّلَالِ لِمُجَاوَرَةِ الْإِنْعَامِ. لِأَنَّ الْإِنْعَامَ مُقَابَلٌ بِالِانْتِقَامِ فَبَيْنَهُمَا طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ وَلِيُنَاسِبَ التَّسْجِيعَ فِي آخِرِ السُّورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَامٌ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَنَحْوِهِمَا فِيمَا يُقَدَّمُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَعْمُولِ. قَدْ اشْتَهَرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّهَا تُفِيدُ الِاهْتِمَامَ.
وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا هُمْ بِهِ أَعَنَى وَالْبَيَانِيُّونَ عَلَى إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدًا ضَرَبْت، نَقُولُ مَعْنَاهُ مَا ضَرَبْت إلَّا زَيْدًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ شَيْءٌ وَالْحَصْرُ شَيْءٌ آخَرُ. وَالْفُضَلَاءُ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ لَفْظَةَ الْحَصْرِ. وَإِنَّمَا قَالُوا الِاخْتِصَاصُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] مَعْنَاهُ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَعْبُدُ بِأَمْرِكُمْ.
وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام: 164] الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ أَيْ مُنْكِرٌ أَنْ أَبْغِيَ رَبًّا غَيْرَهُ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ يَخْتَصُّ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ مُخْلِصًا لَهُ دِينَهُ.
وَقَالَ فِي {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الَّذِي هُوَ غَيْرَ دَيْنِ اللَّهِ عَلَى فِعْلِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْهَمْزَةِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْمَعْبُودِ بِالْبَاطِلِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] إنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلْعِنَايَةِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ الْأَهَمَّ عِنْدَهُ أَنْ يُكَافِحَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إفْكٍ وَبَاطِلٍ فِي شِرْكِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " إفْكًا " مَفْعُولًا بِهِ يَعْنِي أَتُرِيدُونَ إفْكًا ثُمَّ فَسَّرَ الْإِفْكَ بِقَوْلِهِ {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} [الصافات: 86] عَلَى أَنَّهَا إفْكٌ فِي أَنْفُسِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا. فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا لَمْ يَذْكُرْ الزَّمَخْشَرِيُّ لَفْظَةَ الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقَطْ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي الْآيَاتِ الِاهْتِمَامُ. وَيَأْتِي الِاخْتِصَاصُ فِي أَكْثَرِهَا. وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَئِفْكًا آلِهَةً} [الصافات: 86] وقَوْله تَعَالَى {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] وَمَا أَشْبَهَهُمَا لَا يَأْتِي فِيهِ إلَّا الِاهْتِمَامُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ. وَقَدْ يَتَكَلَّفُ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْحَصْرُ فَلَا.
فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ؟ قُلْت: الِاخْتِصَاصُ افْتِعَالٌ مِنْ الْخُصُوصِ. وَالْخُصُوصُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا عَامٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ

الصفحة 12