كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

التَّطْهِيرِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَقَدْ أَبْعَدَ غَايَةَ الْإِبْعَادِ، وَأَتَى بِشَيْءٍ قَدْ يُسْتَيْقَنُ بُطْلَانُهُ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَوَّلَ مَا شُرِعَتْ كَانَتْ أَخْفَى، وَبَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَنَاقُلِ الْعِلْمِ، وَإِفْشَائِهِ صَارَتْ أَبْدَى وَأَظْهَرَ، وَإِذَا كُنَّا إلَى الْيَوْمِ لَمْ يَسْتَبِنْ لَنَا نَجَاسَتُهَا، بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَعَامَّةُ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ.
بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُهُ: إنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يُنَجِّسُونَهَا وَلَا يَتَّقُونَهَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ، وَقَدْ ذَكَرَ طَهَارَةَ الْأَبْوَالِ عَنْ عَامَّةِ السَّلَفِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَبْوَالُ كُلُّهَا نَجَسٌ. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَبْوَالَ الْأَنْعَامِ وَأَبْعَارِهَا نَجَسٌ. قُلْت: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَوْلِ النَّاقَةِ، فَقَالَ: اغْسِلْ مَا أَصَابَك مِنْهُ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ فِيمَا يُصِيبُ الرَّاعِيَ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ قَالَ: يُنْضَحُ، وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي بَوْلِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ: يُغْسَلُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ نَجَاسَةُ ذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ، فَلَعَلَّ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ اجْتِنَابِ قَلِيلِ الْبَوْلِ، وَالرَّوْثِ وَكَثِيرِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ بِغَسْلِهِ كَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ الْمُخَاطِ، وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَكَان فِيهِ رَوْثُ الدَّوَابِّ، وَالصَّحْرَاءُ أَمَامَهُ، وَقَالَ: هَهُنَا وَهَهُنَا سَوَاءٌ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِبَوْلِ كُلِّ ذِي كِرْشٍ.
وَلَسْت أَعْرِفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاسَتِهَا، بَلْ الْقَوْلُ بِطَهَارَتِهَا إلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إنْ كَانَ أَرَادَ النَّجَاسَةَ. فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِأُولَئِكَ؟ .
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا، فَوُجُوبُ التَّطَهُّرِ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ مِنْ الْأُمُورِ

الصفحة 386