كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْخَمْرِ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَالَاتِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ طَيِّبِ الْأَبْدَانِ.
وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّهَا دَاءُ النُّفُوسِ، وَالْقُلُوبِ، وَالْعُقُولِ، وَهِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَالنَّفْسِ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَلِكُ الْمَطْلُوبُ صَلَاحُهُ وَكَمَالُهُ، وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ لَهُ، وَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، مُطِيعٌ لَهُ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ رَبَّهَا، فَإِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْبَدَنُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ [الْقَلْبُ فَسَدَ] الْبَدَنُ كُلُّهُ. فَالْخَمْرُ هِيَ دَاءٌ، وَمَرَضٌ لِلْقَلْبِ، مُفْسِدٌ لَهُ، مُضَعْضِعٌ لِأَفْضَلِ خَوَاصِّهِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ وَالْعِلْمُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْبَدَنُ كُلُّهُ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، فَتَصِيرُ دَاءً لِلْبَدَنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهَا دَاءً لِلْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَلُحَ عَلَيْهَا الْبَدَنُ، وَنَبَتَ، وَسَمِنَ، لَكِنْ يَفْسُدُ عَلَيْهَا الْقَلْبُ فَيَفْسُدُ الْبَدَنُ بِفَسَادِهِ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الَّتِي فِيهَا، فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَدَنِ فَقَطْ، وَنَفْعُهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، فَهِيَ وَإِنْ أَصْلَحَتْ شَيْئًا يَسِيرًا فَهِيَ فِي جَنْبِ مَا تُفْسِدُهُ كَلَا إصْلَاحٍ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] .
فَهَذَا لَعَمْرِي شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةٍ قَلِيلَةٍ، تَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا خَاصَّةً.
عَلَى أَنَّا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا يُرْبِي عَلَى مَا نَظُنُّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ، فَافْهَمْ هَذَا، فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَسِرُّهَا، وَأَمَّا إقْضَاؤُهُ إلَى اعْتِصَارِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اعْتِصَارُهَا، وَإِنَّمَا الْقَوْلُ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً أَنَّ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِإِطْفَاءِ الْحَرْقِ بِهَا، وَدَفْعِ الْغُصَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا.

الصفحة 393