كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

فَإِنْ قِيلَ: فَفِيهِ السَّلَى، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ دَمٌ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمًا يَسِيرًا، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسِيرٌ، وَالدَّمُ الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْ حَمْلِهِ فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّلَى لَحْمٌ مِنْ ذَبِيحَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ نَجِسٌ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حُرِّمَ حِينَئِذٍ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ مِنْ الْبَيِّنِ، أَوْ الْمَقْطُوعِ بِهِ، أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنَجِّسُونَ ذَبَائِحَ قَوْمِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِبُ إلَّا مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، أَمَّا مَا ذَبَحَهُ قَوْمُهُ فِي دُورِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ قَدْ وَقَعَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، لَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفَرِ الْقَلِيلِ، الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ، وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا، إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ، وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ. ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ، فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ.
الدَّلِيلُ السَّابِعُ: وَهُوَ الْعَاشِرُ: مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ: «إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» . وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: «فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ، فَقُلْت: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَوْفَرُ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ» .
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ، الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ، وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ. ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ:

الصفحة 398