كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

«مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَجِيعٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ، وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ.
ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ، وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ، فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّائِدَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ، وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ، شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَقَالَ: «إنَّهَا رِكْسٌ» . إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ، عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. مَعَ أَنَّ لَفْظَ: " الرِّكْسِ " لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الرِّكْسَ: هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ، وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ: إمَّا لِنَجَاسَتِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفَ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا، وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا، خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا، وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ، مَعَ

الصفحة 399