كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ: جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَقَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ. وَلَوَجَبَ تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ، أَوْ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ، وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا. وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ: إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا، أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ، كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ: مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ، فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي: اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ هَذَا طَيِّبًا، وَهَذَا خَبِيثًا. وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ: إمَّا لِقُوَّةِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِ الْبَهِيمَةِ، فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتَ أَبْدَانِنَا مِنْهَا، فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ، أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ؛ أَوْ

الصفحة 404