كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

وَكَثْرَةُ الْإِمْذَاءِ رُبَّمَا كَانَتْ مَرَضًا وَهُوَ فَضْلَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ كَالْبَوْلِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي انْبِعَاثِهِمَا عَنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ أَنَّهُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَاءَةِ فَقَطْ، بَلْ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ أَجْرَيْنَاهُ مَجْرَاهُ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فَرْعًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ النَّاقِصِ، كَالْإِنْسَانِ إذَا أَسْقَطَتْهُ الْمَرْأَةُ قَبْلَ كَمَالِ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، يُنَاطُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْسَانِ إلَّا مَا قَلَّ وَلَوْ كَانَ فَرْعًا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ اسْتِخْبَاثٌ، وَلَيْسَ اسْتِخْبَاثُ الْفَرْعِ بِالْمُوجِبِ خَبَثَ أَصْلِهِ كَالْفُضُولِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَقِيَاسُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَارِجَاتِ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْمَخْرَجِ مَنْقُوضٌ بِالْفَمِ، فَإِنَّهُ مَخْرَجُ النُّخَامَةِ وَالْبُصَاقِ الطَّاهِرَيْنِ، وَالْقَيْءِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الدُّبُرُ مَخْرَجُ الرِّيحِ الطَّاهِرِ، وَالْغَائِطِ النَّجِسِ، وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَخْرَجُ الْمُخَاطِ الطَّاهِرِ، وَالدَّمِ النَّجِسِ، وَإِنْ فَصَلُوا بَيْنَ مَا يَعْتَادُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَبَيْنَ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ لِأَسْبَابٍ حَادِثَةٍ، قُلْنَا النُّخَامَةُ الْمَعِدِيَّةُ إذَا قِيلَ بِنَجَاسَتِهَا مُعْتَادَةٌ، وَكَذَلِكَ الرِّيحُ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَخْرَجِ، وَلِمَ لَا يُقَالُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْدِنِ وَالْمُسْتَحَالِ، فَمَا خُلِقَ فِي أَعْلَى الْبَدَنِ فَطَاهِرٌ، وَمَا خُلِقَ فِي أَسْفَلِهِ فَنَجِسٌ، وَالْمَنِيُّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ وَالْوَدْيِ، وَهَذَا أَشَدُّ اطِّرَادًا؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ وَالنُّخَامَةَ الْمُنَجَّسَةَ خَارِجَانِ مِنْ الْفَمِ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَا فِي الْمَعِدَةِ كَانَا نَجِسَيْنِ، وَأَيْضًا فَسَوْفَ نُفَرِّقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فَقَوْلُهُمْ: مُسْتَحِيلٌ عَنْ الدَّمِ، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ، عَنْهُ عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ مُسْتَنِيرَةٍ قَاطِعَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْآدَمِيِّ، وَبِمُضْغَتِهِ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَحِيلَانِ عَنْهُ، وَبَعْدَهُ عَنْ الْعَلَقَةِ، وَهِيَ دَمٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّمَ قَبْلَ طُهُورِهِ وَبُرُوزِهِ يَكُونُ نَجِسًا، فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَلَا يَعْنِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ وَبَرَزَ بِاتِّفَاقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَى طَهَارَتِهِ وُجُوهٌ:

الصفحة 413