كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

يُمْكِنْهَا الْحَجُّ بِدُونِ طَوَافِهَا وَهِيَ حَائِضٌ، لِتَعَذُّرِ الْمُقَامِ عَلَيْهَا إلَى أَنْ تَطْهُرَ، فَهُنَا الْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ مَعَ الْحَيْضِ، وَبَيْنَ الضَّرَرِ الَّذِي يُنَافِي الشَّرِيعَةَ، فَإِنَّ إلْزَامَهَا بِالْمُقَامِ إذَا كَانَ فِيهِ خَوْفٌ عَلَى نَفْسِهَا، وَمَالِهَا، وَفِيهِ عَجْزُهَا عَنْ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهَا، وَإِلْزَامُهَا بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ مَعَ عَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ، وَتَضَرُّرِهَا بِهِ، لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَإِنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ إنَّهُ يَجِبُ إذَا أَمْكَنَهُ الْمُقَامُ.
أَمَّا مَعَ الضَّرَرِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ، أَوْ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْكَسْبِ، فَلَا يُوجِبُ أَحَدٌ عَلَيْهِ الْمُقَامَ، فَهَذِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَجٌّ يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى سُكْنَى مَكَّةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ النِّسَاءِ إذَا لَمْ تَرْجِعْ مَعَ مَنْ حَجَّتْ مَعَهُ لَمْ يُمْكِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الرُّجُوعُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ يَبْقَى وَطْؤُهَا مُحَرَّمًا مَعَ رُجُوعِهَا إلَى أَهْلِهَا، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَعُودَ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ الَّذِي لَا يُوجِبُ اللَّهُ مِثْلَهُ، إذْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إيجَابِ حِجَّتَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ إلَّا حِجَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْمُفَرِّطِ، فَإِنَّمَا ذَاكَ لِتَفْرِيطِهِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُحْصَرِ، فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ يَتَحَلَّلُ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْصَرُ، فَهَذَا لَا يُفِيدُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهَا؛ فَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى حِجَّةٍ ثَانِيَةٍ، ثُمَّ فِي الثَّانِيَةِ تَخَافُ مَا خَافَتْهُ فِي الْأُولَى، مَعَ أَنَّ الْحَصْرَ لَا يُعْقَلُ إلَّا مَعَ الْعَجْزِ الْحِسِّيِّ، إمَّا بِعُذْرٍ، وَإِمَّا بِمَرَضٍ، أَوْ فَقْدٍ، أَوْ حَبْسٍ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مُحْصَرًا، وَكُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا فِي الشَّرْعِ، فَهَذِهِ هِيَ التَّقْدِيرَاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُفْعَلَ، إمَّا مُقَامُهَا بِمَكَّةَ، وَإِمَّا رُجُوعُهَا مُحْرِمَةً وَلَهَا تَحَلُّلُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا مَنَعَهُ الشَّرْعُ فِي حَقِّ مِثْلِهَا.
وَإِنْ قِيلَ إنَّ الْحَجَّ يَسْقُطُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ كَمَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَا تَحُجُّ إلَّا مَعَ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا، لِكَوْنِ الطَّوَافِ مَعَ الْحَيْضِ يَحْرُمُ كَالْفُجُورِ، بَلْ هَذَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَبْنَاهُ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

الصفحة 450