كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

رَمَضَانَ يَوْمٌ مَقَامَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ الْفَرْضَ مَعَ الْحَيْضِ، فَالنَّفَلُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهَا مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ بِالصِّيَامِ فِي وَقْتِ الطُّهْرِ، كَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي الْمُتَطَوِّعِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَوُّعِ فِي أَوْقَاتٍ أُخَرَ، فَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ مَعَ الْحَيْضِ بِحَالٍ، فَلَا تُبَاحُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، كَمَا لَا تُبَاحُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ الَّتِي لَا سَبَبَ لَهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ ذَوَاتِ السَّبَبِ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِي الدَّلِيلِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا تَجُوزُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا فَأَتَتْ مَصْلَحَتُهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ الْمَحْضِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ، وَالصَّوْمُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَيْسَ لَهَا صَوْمٌ إلَّا وَيُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي أَيَّامِ الطُّهْرِ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ: فَإِنَّهَا لَوْ أُبِيحَتْ مَعَ الْحَيْضِ، لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالٍ، فَإِنَّ الْحَيْضَ مِمَّا يَعْتَادُ النِّسَاءَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «إنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» .
فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّينَ بِالْحَيْضِ صَارَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَيْضِ كَالصَّلَاةِ مَعَ الطُّهْرِ، ثُمَّ إنْ أُبِيحَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَبْقَ الْحَيْضُ مَانِعًا، مَعَ أَنَّ الْجَنَابَةَ وَالْحَدَثَ الْأَصْغَرَ مَانِعٌ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ حَرُمَ مَا دُونَ الصَّلَاةِ، وَأُبِيحَتْ الصَّلَاةُ كَانَ أَيْضًا تَنَاقُضًا، وَلَمْ تَكُنْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ، فَإِنَّ لَهَا فِي الصَّلَاةِ زَمَنَ الطُّهْرِ، وَهُوَ أَغْلَبُ أَوْقَاتِهَا، مَا يُغْنِيهَا عَنْ الصَّلَاةِ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَلَكِنْ رُخِّصَ لَهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَقَدْ أُمِرَتْ لِذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ. كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْمَاءَ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، لَمَّا نَفِسَتْ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ» ، وَأَمَرَ أَيْضًا بِذَلِكَ النِّسَاءَ مُطْلَقًا. «وَأَمَرَ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرِفٍ أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ» ، فَأَمَرَهَا بِالِاغْتِسَالِ مَعَ الْحَيْضِ لِلْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ، وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُلَبِّيَ وَتَقِفَ بِعَرَفَةَ، وَتَدْعُوَ وَتَذْكُرَ اللَّهَ. وَلَا تَغْتَسِلُ، وَلَا تَتَوَضَّأُ، وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ

الصفحة 452