كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

سُجُودِهِ، بَلْ يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ، وَإِذَا رَفَعَ، وَيُسَلِّمُ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، هَذَا عَنْ مَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ يَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ: إنَّ السُّجُودَ الْمُجَرَّدَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الصَّلَاةِ مَا لَهُ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ. وَهَذَا السُّجُودُ لَمْ يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» وَسَجَدَ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَجَدَ التِّلَاوَةَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ الطَّهَارَةَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَلَّمَ فِيهِ؛ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ فِيهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي التَّسْلِيمِ أَثَرٌ. وَمَنْ قَالَ فِيهِ تَسْلِيمٌ فَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، حَيْثُ جَعَلَهُ صَلَاةً، وَهُوَ مَوْضِعُ الْمَنْعِ.
وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ، قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ، لَكِنْ هَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ لَهَا تَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، فَهِيَ صَلَاةٌ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا الْحَائِضُ مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُصَلِّ فَرْضَ الْعَيْنِ فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ وَالنَّفَلِ أَوْلَى. وَدُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ وَاسْتِغْفَارُهَا لَهُ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، كَمَا أَنَّ شُهُودَهَا الْعِيدَ، وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ، يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَالطَّوَافُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى سَائِرِ الْمَنَاسِكِ بِنَفْسِهِ، وَلِكَوْنِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَبِأَنَّ الطَّوَافَ شُرِعَ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ، وَشُرِعَ فِي الْعُمْرَةِ وَشُرِعَ فِي الْحَجِّ.

وَأَمَّا الْإِحْرَامُ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْحَلْقُ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَنَاسِكِ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا فِي الْحَجِّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهُ لِلنَّاسِ؛ وَجَعَلَ لَهُمْ التَّقَرُّبَ بِهِ مَعَ الْإِحْلَالِ وَالْإِحْرَامِ فِي التَّسْكِينِ وَفِي غَيْرِهِمَا، فَلَمْ يُوجِبُ فِيهِ مَا أَوْجَبَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا حَرَّمَ فِيهِ مَا حَرَّمَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ أَمْرَ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ، فَلَا يُجْعَلُ مِثْلَ الصَّلَاةِ.

الصفحة 456