كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الطَّوَافَ، بَلْ نِهَايَتُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِيهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ الْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ قَطَعَ الطَّوَافَ لِصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوْ جِنَازَةٍ أُقِيمَتْ، بَنَى عَلَى طَوَافِهِ، وَالصَّلَاةُ لَا تُقْطَعُ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ مَحْظُورَاتُ الصَّلَاةِ مَحْظُورَةٌ فِيهِ، وَلَا وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ وَاجِبَاتٌ فِيهِ: كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّحْرِيمِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِيمَا يَجِبُ لَهَا، وَيَحْرُمُ فِيهَا فَمَنْ أَوْجَبَ لَهُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَمَا أَعْلَمُ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ. ثُمَّ تَدَبَّرْت وَتَبَيَّنَ لِي أَنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ، وَلَا تَجِبُ فِيهِ بِلَا رَيْبٍ، وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ فِيهِ الطَّهَارَةُ الصُّغْرَى، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جِنْسَ الطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ جِنْسُ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ. وَإِذَا قِيلَ: الطَّوَافُ قَدْ فُرِضَ بَعْضُهُ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ فُرِضَتْ الْقِرَاءَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ إلَّا بِقِرَاءَةٍ، فَكَيْفَ يُقَاسُ الطَّوَافُ بِالصَّلَاةِ؟ وَإِذَا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ، وَهِيَ تَجُوزُ لِلْحَائِضِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهِ فِي أَظْهَرْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، فَالطَّوَافُ أَوْلَى أَنْ يَجُوزَ مَعَ الْحَاجَةِ.
وَإِذَا قِيلَ: أَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ. قِيلَ: مَنْ عَلَّلَ بِالْمَسْجِدِ فَلَمْ يُسَلِّمْ أَنَّ نَفْسَ فِعْلِهِ مَحْظُورٌ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ سَلَّمَ ذَلِكَ يَقُولُ: وَكَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، يُحَرِّمُهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى. ثُمَّ مَسُّ الْمُصْحَفِ يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ سَلْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ،

الصفحة 459