كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

الطَّوَافِ مَعَ الطُّهْرِ، فَمَا أَعْلَمُ مُنَازِعًا أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَتَأْثَمُ بِهِ.
وَتَنَازَعُوا فِي إجْزَائِهِ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُهَا ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَإِنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ إذَا طَافَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ النِّسْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا، إذْ لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا سَقَطَتْ بِالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إذَا صَلَّى نَاسِيًا لَهَا، أَوْ جَاهِلًا بِهَا، لَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ، فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، ثُمَّ إنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ لَيْسَتْ عِنْدَهُ رُكْنًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، بَلْ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ.
وَحَكَى هَؤُلَاءِ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الْحَائِضِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ: يَصِحُّ وَتَجْبُرُهُ بِدَمٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْبَرَكَاتِ وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالْجَنَابَةِ: كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.

وَذَكَرَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ: رِوَايَةٌ: يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ مَعَ الْجَنَابَةِ، نَاسِيًا لَا دَمَ عَلَيْهِ. وَرِوَايَةٌ: أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا. وَرِوَايَةٌ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ النِّزَاعَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ دُونَ الْحَائِضِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي طَوَافِ الْحَائِضِ، وَفِي طَوَافِ الْجُنُبِ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ.
فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي " عَنْ الْمَيْمُونِيِّ قَالَ لِأَحْمَدَ: مَنْ سَعَى أَوْ طَافَ طَوَافَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، ثُمَّ وَاقَعَ أَهْلَهُ. فَقَالَ فِي هَذِهِ: النَّاسُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ.

الصفحة 464