كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

وَلِهَذَا تُعْذَرُ إذَا حَاضَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، بَلْ تُقِيمُ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ أَقَامَتْ بِهِ.
وَكَذَلِكَ إذَا حَاضَتْ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تَشْهَدُ الْمَنَاسِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَتَشْهَدُ الْعِيدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَتَدْعُو وَتَذْكُرُ اللَّهَ، وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ. وَهَذِهِ عَاجِزَةٌ عَنْهَا، فَهِيَ مَعْذُورَةٌ. كَمَا عَذَرَهَا مَنْ جَوَّزَ لَهَا الْقِرَاءَةَ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ الَّذِي يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ، فَالْحَائِضُ أَحَقُّ بِأَنْ تُعْذَرَ مِنْ الْجُنُبِ الَّذِي طَافَ مَعَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الطَّهَارَةُ، وَهَذِهِ تَعْجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ، وَعُذْرُهَا بِالْعَجْزِ، وَالضَّرُورَةُ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ الْجُنُبِ بِالنِّسْيَانِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَمَّا أُمِرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِهَا إذَا ذَكَرَهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ إذَا ذَكَرَ، بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الشَّرْطِ، مِثْلُ: مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِيَامِ، وَعَنْ تَكْمِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ هَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وَلَا سَقَطَ عَنْهَا الطَّوَافُ الَّذِي تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِعَجْزِهَا عَمَّا هُوَ رُكْنٌ فِيهِ، أَوْ وَاجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَهَذِهِ لَا تَسْتَطِيعُ إلَّا هَذَا، وَقَدْ اتَّقَتْ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي طَافَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُتَعَمِّدًا آثِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ الْقَوْلَيْنِ: هَلْ عَلَيْهِ دَمٌ، أَمْ يَرْجِعُ فَيَطُوفُ، وَذَكَرَ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ، وَكَلَامُهُ يُبَيِّنُ فِي أَنَّ تَوَقُّفَهُ فِي الطَّائِفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ يَتَنَاوَلُ الْحَائِضَ وَالْجُنُبَ، مَعَ التَّعَمُّدِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ النَّاسِيَ أَهْوَنُ بِكَثِيرٍ، وَالْعَاجِزُ عَنْ الطَّهَارَةِ أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي الشَّافِي.

الصفحة 466