كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

فَإِنْ قِيلَ: الطَّائِفُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِطَهَارَةٍ قِيلَ: وُجُوبُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِيهِ نِزَاعٌ، وَإِذَا قُدِّرَ وُجُوبُهُمَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا الْمُوَالَاةُ، وَلَيْسَ اتِّصَالُهُمَا بِالطَّوَافِ بِأَعْظَمَ مِنْ اتِّصَالِ الصَّلَاةِ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ خَطَبَ مُحْدِثًا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ: جَازَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَطُوفَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ إذَا نَسِيَ الطَّهَارَةَ فِي الْخُطْبَةِ وَالطَّوَافِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ.
وَقَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ جَازَ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا يَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً، وَهُمَا قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَكِنْ مَنْ يَقُولُ هِيَ سُنَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دَمٌ، وَأَمَّا أَحْمَدُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، لَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَنْ طَافَ جُنُبًا وَهُوَ نَاسٍ، فَإِذَا طَافَتْ حَائِضًا مَعَ التَّعَمُّدِ تَوَجَّهَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَهُنَا غَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ عَلَيْهَا دَمًا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا يَجِبَ الدَّمُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ يُؤْمَرُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ. فَإِنَّ لُزُومَ الدَّمِ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ، وَهِيَ لَمْ تَتْرَكْ مَأْمُورًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَمْ تَفْعَلْ مَحْظُورًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّ الطَّوَافَ يَفْعَلُهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَصَارَ الْحَظْرُ هُنَا مِنْ جِنْسِ حَظْرِ اللَّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاعْتِكَافِ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِلَا دَمٍ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَهِيَ حِينَئِذٍ يُبَاحُ لَهَا الْمَحْظُورَاتُ إلَّا الْجِمَاعَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَ طَوَافُهَا مَعَ الْحَيْضِ مُمْكِنًا أُمِرَتْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ طَوَافَ الْوَدَاعِ عَنْ الْحَائِضِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ لَمَّا قَدِمَتْ وَهِيَ مُتَمَتِّعَةٌ فَحَاضَتْ أَنْ تَدَعَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، وَتُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الطَّوَافِ.
قِيلَ: الطَّوَافُ مَعَ الْحَيْضِ مَحْظُورٌ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ، أَوْ لِلطَّوَافِ، أَوْ لَهُمَا،

الصفحة 469