كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

بِالشَّمْسِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِنْضَاجِ الثِّمَارِ، وَخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ، وَكَذَلِكَ مَا يَجْعَلُهُ بِهَا مِنْ التَّرْطِيبِ وَالتَّيْبِيسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ، كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِشْرَاقَ وَالْإِحْرَاقَ، وَفِي الْمَاءِ التَّطْهِيرَ وَالسَّقْيَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَنَّهُ يَجْعَلُ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49] ، وَكَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] . وَكَمَا قَالَ: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] .
فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهَا لَا بِهَا، فَعِبَارَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ، كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْفِعْلِ هُوَ شِرْكٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ. وَقَدْ أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَنَافِعِ النُّجُومِ، أَنَّهُ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا زِينَةُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُرْجَمُ بِالنُّجُومِ، وَإِنْ كَانَتْ النُّجُومُ الَّتِي تُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ غَيْرِ النُّجُومِ الثَّابِتَةِ فِي السَّمَاءِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا بِخِلَافِ تِلْكَ، وَلِهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُخَالِفَةٌ لِتِلْكَ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ النَّجْمِ يَجْمَعُهَا، كَمَا يَجْمَعُ اسْمُ الدَّابَّةِ وَالْحَيَوَانِ لِلْمِلْكِ وَالْآدَمِيِّ، وَالْبَهَائِمِ وَالذُّبَابِ، وَالْبَعُوضِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ.
وَقَالَ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ» .

الصفحة 58